معاني القرآن للفراء - الفراء  
{أَمَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَنۢبَتۡنَا بِهِۦ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهۡجَةٖ مَّا كَانَ لَكُمۡ أَن تُنۢبِتُواْ شَجَرَهَآۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمٞ يَعۡدِلُونَ} (60)

وقوله : { فَأَنبَتْنا بِهِ حَدَائقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ60 }

فقال : { ذاتَ } ولم يقل : ذوات وكلّ صواب . وإنما جَاز أن يقول { ذات } للحدائق وهي جمع لأنك تقول ، هذه حَدَائق كما تقول : هذه حديقة . ومثله قول الله { وَلِلّهِ الأسْماء الحُسْنَى } ولم يقل الحسُنَ و( والقُرون الأولَى ) ولو كانت حدائق ذوات بهجة كان صوابا . وقال الأعشى في توحيدها :

فسوف يُعقبُنيهِ إن ظفرتَ به *** ربٌّ غفورٌ وبِيض ذات أطهار

ولم يقل : ذوات أطهار . وإنما يقال : حديقة لكل بستان عليه حائط . فما لم يكن عليْه حائط لم يُقَل له : حديقة .

وقوله : { أَإله مَّعَ اللَّهِ } مردود على قوله { أَمْ مَنْ خَلَق } كذَا وكذا . ثم قال { أَإله مَّعَ اللَّهِ } خَلَقه . وإن شئت جعلت رفعه بمع ؛ كقولك : أمع الله ويلكم إله ! ولو جاء نصباً أَإِلها مع الله على أن تضمر فعلاً يكون به النصب كقولك : أتجعلون إلها مع الله ، أو أتتَّخذونَ إلها مع الله .

والعرب تقول : أثعلباً وتفرّ كأنهم أرَادوا : أتُرَى ثعلباً وتفِرّ . وقال بعض الشعراء :

أَعبداً حلَّ في شُعَبى غريباً *** أَلُؤْما لا أبالكَ واغترابَا

يريد : أتجمع اللؤم والاغتراب . وسَمعت بعض العرب لأسير أسَرَهُ ليْلاً ، فَلَما 138 ا أصْبح رَآه أسود ، فقال أعبداً سَائر الليلة ، كأنه قال : ألاَ أُراني أسَرْت عبداً منذ ليلتي . وقال آخر :

أجَخْفا تميميّاً إذا فتنة خَبَتْ *** وجُبْنا إذا ما المشرفيّة سُلَّت

فهذا في كل تعجُّب خاطَبُوا صاحبه ، فإذا كَان يتعجّب من شيء ويخاطب غيره أَعملوا الفعل فقالُوا : أثعلب ورجل يفرّ منه ، لأن هذا خطاب لغير صَاحب الثعلب . ولو نصب على قوله أيفر رَجُل من ثعلبٍ فتجعل العطف كأنه السَّابق . يُبْنَى على هذا . وسمعت بعض بنى عُقَيل ينشد لمجنون بنى عامر :

أألبرقَ أم نارا لليلى بدت لنا *** بمُنْخَرقٍ من سَارياتِ الجنائبِ

وأنشدني فيها :

بل البرقَ يبدو في ذَرَى دَفَئيَّة *** يضيء نَشَاصاً مشمخرّ الغَوارب

وأنشدني فيها :

ولو نار ليلى بالشريف بدت لنا *** لحبت إلينا نار من لم يصاقب

فنصب كل هذا وَمعه فعله على إضمار فعل منه ، كأنه قَالَ : أأرى ناراً بل أرى البرق . وكأنه قَالَ : ولو رأيتُ نار ليلى . وكذلك الآيتان الأُخريَان في قوله { أَإله مَّعَ اللَّهِ } .