اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَمَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَنۢبَتۡنَا بِهِۦ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهۡجَةٖ مَّا كَانَ لَكُمۡ أَن تُنۢبِتُواْ شَجَرَهَآۗ أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمٞ يَعۡدِلُونَ} (60)

قوله : «أَمَّن خَلَقَ » «أَمْ » هذه منقطعة{[39262]} ، لعدم تقدّم همزة الاستفهام ولا تسوية ، و «مَنْ خَلَقَ » مبتدأ وخبره محذوف ، فقدَّره الزمخشري : خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ{[39263]} ، فقدر ما{[39264]} أثبت في الاستفهام الأوّل ، وهو حَسَنٌ ، وقَدَّرَهُ ابن عطية : يُكفَر بنعمته ويُشْرك به ، ونحو هذا من المعنى{[39265]} . وقال أبو الفضل الرازي : لا بُدَّ من إضمار جملة معادلة ، وصار ذلك المضمر كالمنطوق لدلالة الفحوى عليه ، وتقدير تلك الجملة : أم مَّنْ خَلَقَ السَّمَواتِ والأَرْض كَمَنْ لَمْ يَخْلُقُ ؟ وكذلك أخواتها ، وقد أُظْهِرَ في غير هذه المواضع ما أُضْمِر فيها{[39266]} ، كقوله :

{ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } [ النحل : 17 ] . وقال أبو حيان : وتسمية هذا المقدر جملة إن أراد أنّها جملة من جهة الألفاظ فصحيح{[39267]} ، وإن أراد الجملة المصطلح عليها في النحو ، فليس بصحيح ، بل هو مضمر من قبيل المفرد{[39268]} . وقرأ الأعمش : «أَمَنْ » بتخفيف الميم{[39269]} جعلها ( مَنْ ) الموصولة داخلة عليها همزة الاستفهام ، وفيها وجهان :

أحدهما : أن يكون مبتدأ والخبر محذوف وتقديره ما تقدم من الأوجه ، قاله أبو حيان{[39270]} .

والثاني : أنها بدل من «الله » ، كأنه قيل : أمن{[39271]} خلق السموات والأرض خَيْر أمَّا يشركون ، ولم يذكر الزمخشري غيره{[39272]} . ويكون قد فصل بين البَدَل والمُبْدَل منه بالخبر وبالمعطوف على المبدل{[39273]} منه ، وهو نظير قولك : أَزيدٌ خَيْرٌ أَمْ عَمْرٌوا أأخوك{[39274]} ، على أن يكون أأخوك{[39275]} بدلاً من : أزيد ، وفي جواز مثل هذا نظر{[39276]} .

قوله : «فَأَنْبَتْنَا » هذا التفات من الغيبة إلى المتكلم ، لتأكيد معنى اختصاص الفعل بذاته ، والإيذان بأنَّ إنْبات الحدائق المختلفة الألوان والطُّعوم - مع سقيها بماءٍ واحدٍ - لا يقدر عليه إلاّ هو وحده ، ولذلك رشحه بقوله : { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا }{[39277]} . فإن الإنسان ربما يقول : أنا الذي ألقي البذر في الأرض وأسقيها الماء وأسعى في تشميسها ، وفاعل السبب فاعل المسبب ، فإذن أنا المنبت للشجرة ، فلمّا كان هذا الاحتمال قائماً ، لا جرم أزال الله تعالى هذا الاحتمال ، فرجع من لفظ الغيبة إلى لفظ المتكلم ، والحدائق : جمع حديقةٍ وهي البستان ، وقيل القطعة من الأرض ذات الماء{[39278]} . قال الراغب : سُمِّيَتْ بذلك تشبيهاً بحَدقةِ العين في الهيئة وحصول الماء فيه{[39279]} . وقال غيره : سُمِّيت بذلك لإحداق الجدران بها{[39280]} .

وليس بشيء ، لأنها يطلق{[39281]} عليها ذلك مع عدم الجدران{[39282]} ووقف القراء على «ذَات » من «ذَاتِ بَهْجَة » بتاء مجهورة ، والكسائي بها ، لأنها تاء تأنيث{[39283]} . وقيل : «ذات » ، لأنه بمعنى جماعة حدائق ذات بهجة كما تقول{[39284]} : النساء ذهبت ، و «البهجة » : الحسن ، لأن حسّ الناظر يبتهج به{[39285]} . وقرأ ابن أبي عبلة : «ذَوَاتِ بَهَجَةٍ » بالجمع ، وفتح هاء «بَهَجَةٍ »{[39286]} . قوله : { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ } ، «أَنْ تُنْبِتُوا » اسم كان و «لَكُمْ » خبر مقدم ، والجملة المنفية يجوز أن تكون صفة ل «حدائق »{[39287]} ، وأن تكون حالاً ، لتخصصها بالصفة .

قوله : { أإله مَّعَ الله } استفهام بمعنى الإنكار ، هل معبود سواه أعانه على صنعه ، بل ليس معه إله ، وقرئ : أإلهاً مَعَ اللَّهِ ، أي : تدعون أو تشركون{[39288]} ، { بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } : يعني كفار مكة ، يَعْدِلُون : يشركون ، أي : يعدلون بالله{[39289]} سواه ، وقيل يعدلون عن هذا الحق الظاهر ، ونظير هذه الآية أول سورة الأنعام{[39290]} .


[39262]:انظر الكشاف 3/148.
[39263]:المرجع السابق.
[39264]:في ب: فقدرنا.
[39265]:تفسير ابن عطية 11/227.
[39266]:انظر البحر المحيط 7/89.
[39267]:في ب: صحيح.
[39268]:البحر المحيط 7/89.
[39269]:المختصر (110)، المحتسب 2/142.
[39270]:قال أبو حيان: (وقرا الأعمش بتخفيفها جعلها همزة الاستفهام أدخلت على (من) ومن" في القرائتين مبتدأ وخبر) البحر المحط 2/89.
[39271]:في الأصل: أما.
[39272]:قال الزمخشري: (وقرأ الأعمش "أمن" بالتخفيف، ووجهه أن يجعل بدلاً من "الله" كأنه قال: أمن خلق السموات والأرض خير أم ما تشركون) الكشاف 3/148.
[39273]:في ب: البدل. وهو تحريف.
[39274]:في ب: أم أخوك. وهو تحريف.
[39275]:في ب: أخوك.
[39276]:ما ذكره ابن عادل عن الفصل لا يضر، لنهم قد فصلوا بين المتلازمين كالمبتدأ والخبر بجملة الاعتراض، والفصل هنا بجزء من المبدل منه وهو الخبر وما عطف عليه.
[39277]:انظر الكشاف 3/148.
[39278]:المرجع السابق.
[39279]:المفردات في غريب القرآن (111).
[39280]:قال الفراء: (إنما يقال: حديقة لكل بستان عليه حائط، فما لم يكن عليه حائط لم يقل له حديقة) معاني القرآن 2/297.
[39281]:في ب: مطلق.
[39282]:قال أبو حيان: (الحديقة: البستان كان عليه جدار أو لم يكن) البحر المحيط 7/81.
[39283]:انظر إبراز المعاني (247).
[39284]:في ب: يقال.
[39285]:انظر الكشاف 3/148.
[39286]:انظر البحر المحيط 7/89.
[39287]:انظر التبيان 2/1012. وفي ب: الحدائق.
[39288]:انظر الكشاف 3/148، البحر المحيط 7/89، وفيهما: أتدعون أو أتشركون.
[39289]:في ب: الله.
[39290]:وهو قوله تعالى: {الحمد لله الذي خلق السَّموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون}[1]. انظر اللباب 3/371.