المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَكَيۡفَ تَأۡخُذُونَهُۥ وَقَدۡ أَفۡضَىٰ بَعۡضُكُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ وَأَخَذۡنَ مِنكُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا} (21)

ثم وعظ تعالى عباده مذكراً لهم بالمودة التي بين الزوجين الموجبة لحياطة مال المرأة ، إذ قد أخذ منها العوض عما أعطيته ، { وكيف } في موضع نصب على الحال و { أفضى } معناه : باشر وجاوز أقصى المجاوزة ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]

بِلىً وَثَأىً أفْضَى إلى كُلّ كتْبَةٍ . . . بَدا سَيْرُهَا مِنْ ظَاهِرٍ بَعْدَ بَاطِنِ{[3919]}

وفي المثل :_ الناس فوضى فضاً_أي مختلطون يباشر أمر بعضهم بعضاً{[3920]} وتقول أفضَتْ الحال إلى كذا أي صارت إليه ، وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم : الإفضاء في هذه الآية الجماع ، قال ابن عباس : ولكن الله كريم يكني ، واختلف الناس في المراد بالميثاق الغليظ ، فقال الحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي وغيرهم : وهو قوله تعالى : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } [ البقرة : 229 ] وقال مجاهد وابن زيد : الميثاق الغليظ عقدة النكاح ، وقول الرجل : نكحت وملكت النكاح ونحوه ، فهذه التي بها تستحل الفروج ، وقال عكرمة والربيع : الميثاق الغليظ يفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( استوصوا بالنساء خيراً ، فإنهن عوان عندكم ، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلام الله ){[3921]} ، وقال قوم : الميثاق الغليظ الولد ، ومن شاذ الأقوال في هذه الآية ، أن بكر بن عبد الله المزني قال : لا يجوز أن يؤخذ من المختلعة قليل ولا كثير ، وإن كانت هي المريدة للطلاقة ، ومنها أن ابن زيد قال : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله }{[3922]} قال القاضي أبو محمد : وليس في شيء من هذه الآيات ناسخ ولا منسوخ ، وكلها ينبني بعضها مع بعض .


[3919]:- اختلفت النسخ الأصلية في رواية هذا البيت، ولم يستشهد به القرطبي ولا أبو حيان. بلى: من قولنا: بل الثوب رثّ. ثأًى: من قولنا ثأى الخرز ثأيا فتقه- فالثأي هو: الفساد والقلق. أفضى: انتهى إلى. كَتْبةٍ: من قولنا: كتب السقاء ونحوه: خرزه بسيرين، أي خاطه. وكأنه يصف القرابة أو نحوها بأن البلى والفساد انتهى إلى كل خيط في سيرها.
[3920]:- عبارة القرطبي: أي مختلطون لا أمير عليهم. وهذا ما ذكره اللسان. ولعل الصواب: (يباشر بعضهم أمر بعض).
[3921]:- ورد هذا الحديث في خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع. وأخرجه ابن أبي شيبة عن عكرمة ومجاهد (فتح القدير 1/ 443).
[3922]:- من الآية (229) من سورة البقرة.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَكَيۡفَ تَأۡخُذُونَهُۥ وَقَدۡ أَفۡضَىٰ بَعۡضُكُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ وَأَخَذۡنَ مِنكُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا} (21)

قوله : وكيف تأخذونه استفهام تعجيبي بعد الإنكار ، أي ليس من المروءة أن تطمعوا في أخذ عوض عن الفراق بعد معاشرة امتزاج وعهد متين . والإفضاء الوصول ، مشتقّ من الفضاء ، لأنّ في الوصول قطع الفضاء بين المتواصلين والميثاق الغليظ عقدة النكاح على نيّة إخلاص النيّة ودوام الألفة ، والمعنى أنّكم كنتم على حال مودة وموالاة ، فهي في المعنى كالميثاق على حسن المعاملة .

والغليظ صفة مُشَبَّهة من غَلُظ بضمّ اللام إذا صلب ، والغلظة في الحقيقة صَلابة الذوات ، ثم استعيرت إلى صعوبة المعاني وشدّتها في أنواعها ، قال تعالى : { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة } [ التوبة : 123 ] . وقد ظهر أنّ مناط التحريم هو كون أخذ المال عند طلب استبدال الزوجة بأخرى ، فليس هذا الحكم منسوخاً بآية البقرة خلافاً لجابر بن زيد إذ لا إبطال لمدلول هذه الآية .