( وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا21 ) .
( وكيف تأخذونه ) انكار لأخذه اثر انكار ، وتنفير عنه غب تنفير ، على سبيل التعجب . أي بأي وجه تستحلون المهر ( وقد أفضى ) أي وصل ( بعضكم إلى بعض ) فأخذ عوضه ( وأخذن منكم ميثاقا غليظا ) أي عهدا وثيقا مؤكدا مزيد تأكيد ، يعسر معه نقضه . كالثوب الغليظ يعسر شقه .
قال الزمخشري : الميثاق الغليظ حق الصحبة والمضاجعة . ووصفه بالغلظ لقوته وعظمه . فقد قالوا : صحبة عشرين يوما قرابة . فكيف بما جرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج ؟ انتهى .
قال الشهاب الخفاجي : قلت بل قالوا :
صحبة يوم نسب قريب وذمة يعرفها اللبيب
أو الميثاق الغليظ ما أوثق الله عليهم في شأنهم بقوله تعالى : ( فامساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) {[1606]} . أو قول الولي عند العقد : أنكحتك على ما في كتاب الله : من امساك بمعروف أو تسريح بإحسان .
الأولى : في قوله تعالى : ( وآتيتم احداهن قنطارا ) دليل على جواز الاصداق بالمال الجزيل . وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى عن كثرته ثم رجع عن ذلك . كما روى الإمام أحمد{[1607]} عن أبي العجفاء السلمي قال : " سمعت عمر بن الخطاب يقول : ألا لا تغلو / صدق النساء . ألا لا تغلو صدق النساء . فانها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم . ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه ، ولا أصدق امرأة من بناته ، أكثر من اثنتي عشرة أوقية . وان الرجل ليبتلى بصدقة امرأته وقال مرة : وان الرجل ليغلي بصدقة امرأته ) حتى تكون لها عداوة في نفسه . وحتى يقول : كلفت إليك عرق القربة " . ورواه أهل ( السنن ) . وقال الترمذي : هذا حديث صحيح .
وروى أبو يعلى عن مسروق قال : " ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : أيها الناس ! ما اكثاركم في صدق النساء ! وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك . ولو كان الاكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم اليها . فلأعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم . قال ثم نزل . فاعترضته امرأة من قريش . فقالت : يا أمير المؤمنين ! نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم . قال : نعم . فقالت أما سمعت ما أنزل الله في القرآن ؟ قال : وأي ذلك ؟ قالت : أما سمعت الله يقول : ( وآتيتم احداهن قنطارا ) . الآية . قال فقال : اللهم ! غفرا . كل الناس أفقه من عمر . ثم رجع فركب المنبر فقال : أيها الناس ! اني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم . فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب " .
قال أبو يعلى : وأظنه قال : " فمن طابت نفسه فليفعل " . اسناده جيد قوي . قاله ابن كثير .
وفي ( الحجة البالغة ) ما نصه : لم يضبط النبي صلى الله عليه وسلم المهر بحد لا يزيد ولا ينقص . إذ العادات في اظهار الاهتمام مختلفة . والرغبات لها مراتب شتى . ولهم في المشاحة طبقات . فلا يمكن تحديده عليهم . كما لا يمكن أن يضبط ثمن الأشياء المرغوبة بحد مخصوص . ولذلك قال : " التمس ولو خاتما من حديد{[1608]} " . غير أنه سن في صداق أزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشا . أي نصفا ، انتهى .
/ وقد ورد ما يفيد الندب إلى تخفيفه وكراهة المغالاة فيه . أخرج أبو داود والحاكم ، وصححه من حديث عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {[1609]} " خير الصداق أيسره " .
وفي ( صحيح مسلم ) {[1610]}عن أبي هريرة قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إني تزوجت امرأة من الأنصار . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : هل نظرت اليها ؟ فان في عيون الأنصار شيئا . قال : قد نظرت إليها . قال : على كم تزوجتها ؟ قال على أربع أواق . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : على أربع أواق ! كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل . ما عندنا ما نعطيك . ولكن عسى أن نبعثك في بعث تصيب منه . قال فبعث إلى بني عبس ، بعث ذلك الرجل فيهم " .
الثانية : خص تعالى ذكر من آتى القنطار من المال بالنهي ، تنبيها بالأعلى على الأدنى . لأنه إذا كان هذا ، على كثرة ما بذل لامرأته من الأموال ، منهيا عن استعادة شيء يسير حقير نها ، على هذا الوجه ، كان من لم يبذل الا الحقير منهيا عن استعادته بطريق الأولى . ومعنى قوله : ( وآتيتم ) والله أعلم : وكنتم آتيتم . إذ ارادة الاستبدال ، في ظاهر الأمر ، واقعة بعد ايتاء المال واستقرار الزوجية –كذا في ( الانتصاف ) .
الثالثة : اتفقوا على أن المهر يستقر بالوطء . واختلفوا في استقراره بالخلوة المجردة . ومنشأ ذلك : أن ( أفضى ) في قوله تعالى : ( وقد أفضى بعضكم إلى بعض ) . يجوز حملها على الجماع كناية ، جريا على قانون التنزيل من استعمال الكناية فيما يستحيى من ذكره . والخلوة لا يستحيى من ذكرها فلا تحتاج إلى كناية . ويجوز ابقاؤها على ظاهرها .
قال ابن الأعرابي : الافضاء في الحقيقة الانتهاء . ومنه : ( وقد أفضى بعضكم إلى بعض ) . أي انتهى وآوى . هذا ، والكناية أبلغ وأقرب في هذا المقام . ومما يرجحها أنه تعالى ذكر ذلك في معرض التعجب فقال : وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض . والتعجب انما يتم إذا كان هذا الافضاء سببا قويا في حصول الألفة والمحبة ، وهو الجماع ، لا مجرد الخلوة . فوجب حمل الافضاء إليه –ذكره الرازي من وجوه . ثم قال : وقوله تعالى : ( وكيف تأخذونه ) كلمة تعجب . أي لأي وجه ولأي معنى تفعلون هذا ؟ فانها بذلت نفسها لك وجعلت ذاتها لذتك وتمتعك ، وحصلت الألفة التامة والمودة الكاملة بينكما ، فكيف يليق بالعاقل أن يسترد منها شيئا بذله لها بطيبة نفسه ؟ ان هذا لا يليق بمن له طبع سليم وذوق مستقيم .
الرابعة : في ( الاكليل ) استدل بهذه الآية من منع الخلع مطلقا : وقال : انها ناسخة لآية البقرة . وقال غيره : ان هذه الآية منسوخة بها . وقال آخرون : لا ناسخ ولا منسوخ بل هي في الأخذ بغير طيب نفسها . انتهى .
/ أقول : ان القول الثالث متعين . لان كلا من آيتي البقرة وهذه في مورد خاص يعلم من مساق النظم الكريم . وذلك لأن قوله في البقرة : ( فان خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ) {[1611]} –صريح في أن الزوجة إذا كرهت خلق زوجها أو خلقه أو نقص دينه أو خافت اثما بترك حقه ، أبيح لها أن تفتدي منه وحل له أخذ الفداء مما آتاها ، لقوله تعالى ثم : ( ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا الا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فان خفتم ) {[1612]} الخ . والحكمة في حل الأخذ ظاهرة . وهي جبر الزوج مما لحقه من ضعة اختلاعها له وهيمنتها حينئذ عليه ، واسترداد ما لو أخذ منه ، لكان في صورة المظلوم . لأنه لم يجنح للفراق ولا رغب فيه . فكان من العدل الالهي أن لا يجمع عليه بين خسارتي التمتع والمال . وأما هذه الآية فهي في حكم آخر . وهو ما إذا أراد استبدال زوجته لطموح بصره إلى غيرها من غير أن تفتدي منه ، أو ترغب في خلع نفسها منه فيضن بما آتاها ويأسف لأن تحوزه وهو لا يريدها وليس لها في نفسه وقع ، فعزم عليه أن لا يأخذ مما أصدقها شيئا قط بعد الافضاء . لأنه لو أبيح له الأخذ حينئذ لكان ظلما واضحا . لأنه أخذ بلا جريرة منها . فكان في ابقاء ما في يدها مما آتاها جبر لما نابها من ألم الاعراض عنها واطراحها ، رحمة منه تعالى ، وعدلا في القضيتين . فالقائل بالنسخ فاته سر الحكمين . وليت شعري ماذا يقول في الحديث الصحيح المروي في البخاري{[1613]} وغيره ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم لامرأة / ثابت : " أتردين عليه حديقته ! فقالت : نعم . فقال صلى الله عليه وسلم لزوجها : اقبل الحديقة وطلقها " . ولا يقال : لعل القائل بنسخ الخلع اعتمد فيه قوله تعالى : ( وكيف تأخذونه ) . الخ . وفيه ما فيه من تهويل الأخذ والتنفير عنه كما أسلفنا . لأنا نقول ان دلائل الأحكام الناسخة أو المنسوخة انما تؤخذ من الجمل التامة في الأصلين . فلا تؤخذ من شرط بلا جوابه مثلا . وبالعكس . ولا من مبتدأ بدون خبره وبالعكس . ولا من مؤكد بدون مؤكده . وهكذا . وما نحن فيه لو أخذ عموم تحريم الأخذ من قوله : ( وكيف تأخذونه ) –لكان كالاستدلال من المؤكد بدون ملاحظة مؤكده . وهذا ساقط . لأن قوله : ( وكيف ) –تنفير عما تقدم ، متعلق به . وما قبله خاص . ولو زعم القائل بالنسخ أن قوله : ( وان أردتم استبدال زوج ) ، عام في المخلوعة ومن أريد طلاقها –نقول هذا باطل وفاسد . لأن مورد الآية في ارادته ، وهو فراقها مبتدئا . فلا يصدق على المختلعة . لأنه لا يراد الاستبدال بغيرها ابتداء من جانب الزوج . وبالجملة فكل من قرأ صدر الآيتين علم أن كلا في حكم على حدة . لا تعلق فيها له بالآخر . والنسخ لا يصار إليه بالرأي . وقد كثر في المتأخرين دعوى النسخ في الآيات هكذا بلا استناد قوي . بل لما يتراءى ظاهرا بلا امعان . فتثبت هذا .
وفي ( الصحيحين ) {[1614]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين ، بعد فراغهما من تلاعنهما : " الله يعلم أن أحدكما كاذب . فهل منكما تائب ؟ قالها ثلاثا . فقال الرجل : يا رسول الله : ما لي ؟ / يعني ما أصدقها . قال : لا مال لك . ان كنت صدقت فهو بما استحللت من فرجها . وان كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها . " وفي ( سنن أبي داود ) {[1615]} وغيره ، عن بصرة بن أكثم " أنه تزوج امرأة بكرا في خدرها . فاذا هي حامل من الزنى . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له . فقضى لها بالصداق وفرق بينهما . وأمر بجلدها . وقال : الولد عبد لك ، والصداق في مقابلة البضع " .