اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَكَيۡفَ تَأۡخُذُونَهُۥ وَقَدۡ أَفۡضَىٰ بَعۡضُكُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ وَأَخَذۡنَ مِنكُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا} (21)

وقوله : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ } تقدَّمَ الكلام في كيف عند قوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ }

[ البقرة : 28 ] .

قوله : { وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ }{[27]} الواو للحال ، والجملة بعدها : في محل نصب ، وأتى ب " قد " ليقرب الماضي من الحال ، وكذلك " أخذن " وقد مقدرة معه لتقدم ذكرها ، وأصل أفْضَى ذهب إلى فضاه أي ناحية سعته ، يقال : فَضَى يَفْضُو فَضْواً ، وأفضى : عن ياء أصلها واو .

وقال اللَّيْثُ : أفْضَى فلان إلى فلان أي : وصل إليه ، وأصله أنه صار في فضائه وفرجته .

وقال غيره : أصل الإفْضَاءِ الوصول إلى الشيء من غير واسطة .

وللمفسرين{[28]} في هذا الإفضاء قولان :

أحدهُمَا : قال ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي أنَّهُ كناية عن الجماع{[29]} وهو اختيار الزجاج ، وابن قتيبة ، ومذهب الشافعيّ ؛ لأنَّ عنده أنَّ الزوج إذا أطلق قبل المسيس فله أن يرجع في نصف المهر ، وإنْ خلا بها .

والثاني : أنَّ الإفضاء هو الخلوة وإن لم يجامعها{[30]} .

وقال الكلبي : الإفضاء أن يكون معها في لحاف واحد ، جامعها أو لم يجامعها ، وهذا اختيار الفراء ، ومذهب أبي حنيفةَ ؛ لأن الخلوةَ في الأنكحة الصحيحة تقرر المهر ، واسْتَدَلُّوا على القول الأوَّّلِ بوجوهٍ :

أحدها : ما تَقَدَّمَ عن الليث : أنه يصير في فرجته وفضائه ، وهذا المعنى إنَّمَا يحصل في الحقيقة عند الجماع .

وثانيها : أنه تعالى ذكر في معرض التعجب فقال { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ } والتعجب إنما يتم إذا كان هذا الإفضاء سبباً قوياً في حصول الألفة والمحبّة ، وذلك لا يحصل بمجرد الخلوة وإنَّمَا يحصل بالجماع ، فيحمل عليه .

وثالثها : أن الإفضاء إليها لا بد وأن يكون مُفَسراً بفعل منه ينتهي إليه ؛ لأن كلمة " إلى " لانتهاء الغاية ، ومجرد الخلوة ليبس كذلك ؛ لأن عند الخلوة المحضة لم يصل كل واحد منهما إلى الآخر فامتنع تفسير قوله : { أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ } بمجرد الخلوة .

وإنْ قيل : إذا اضطجعها في لحافٍ واحد ملامساً فقد حصل الإفْضَاء مِنْ بعضهم إلى بعض ؛ فوجب أن يكون ذلك كافياً وأنتم لا تقولون به .

فالجَوابُ أنَّ القائل بذلك قائلان : قائل يقول : المهر لا يتقرر إلاَّ بالجماع ، وآخر يقول : يتقرَّر بمجرد الخلوة ولا يقولُ أحَدٌ إنَّهُ يتقرر بالملامسة والمضاجعة فَبَطَلَ هذا القول بالإجماع ، ولم يبق في تفسير الإفضاء إلاَّ أحد أمرين : إمَّا الجماع ، وإمَّا الخلوةَ ، وقد أبطلنا القول بالخلوة بما بيناه فلم يبق إلاَّ أن المراد بالإفْضَاءِ الجماع .

ورابعها : أنَّ المهر قَبْلَ الخُلْوَةِ ما كان مُتَقَرِّراً ، وقد علّقَ الشَّرع تقريره على إفضاء البعض إلى البعض ، وقد اشتبه في المُرَادِ بهذا الإفضاء هل هو الخُلوة ، أو الجماع ، وإذَا وقع الشكُّ وجب بقاء ما كان على ما كان والأصل براءة الذمة .

احتج من قال : بأن الخلوة الصحيحة تقرر المهر وتُوجِبُ العدةَ دخل بها أوْ لم يدخل بها بما رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عن [ ابن ]{[31]} ثوبان ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{[32]} : " مَنْ كَشَفَ خِمَارَ امْرَأةٍ ونَظَرَ إلَيْهَا وَجَبَ الصَّدَاقُ " {[33]} وقال عمر : إذَا أغْلَقَ باباً وأرخى ستراً ؛ وَجَبَ الصداق وعليها العدة ولها الميراث{[34]} ، وعن علي : إذا أغلق باباً وأرخى ستراً ورأى عورة فقد وجب الصداق ، وقضى الخلفاء الراشدون أنَّ من أغلق باباً ، وأرخى ستراً فقد وجب الصداق وعليها العدة{[35]} .

قوله { وَأَخَذْنَ مِنكُ } في منكم وجهان :

أظهرهما : أنه متعلق ب " أخذن " ، وأجاز فيه أبُو الْبَقَاءِ أن يكون حالاً من ميثاقاً قدّم عليه كأنه لما رأى أنَّه يجوز أن يكون صفة لو تأخر أجاز ذلك وهو ضعيف .

قال الحسن ، وابن سيرين ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وعكرمة ، والفراء : المراد بالميثاق هو قول الولي عند العقد : زوّجْتُكَها على ما أخذ للنساء على الرجال من إمساك بمعروف ، أو تسريح بإحسان{[36]} .

وقال الشَّعْبِيُّ وَعِكْرِمَةُ ومُجَاهِدٌ : في كلمة النِّكَاحِ المعقود عليها على الصداق{[37]} وقال عليه الصلاة والسلام : " اتَّقُوا اللَّهَ في النِّسَاءِ فَإنَّكُمْ أخَذْتُمُوهُنَّ بأمَانَةِ اللَّهِ واسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ " {[38]} .

وقيل المراد بالميثاق الغليظ هو : إفْضَاءُ بعضهم إلى بعض وصفه بالغلظة لعظمة ما يحدث بين الزوجين من الاتحاد والألفة والامتزاج .


[27]:سقط في أ.
[28]:سقط في أ.
[29]:ينظر: المشكل 1/123.
[30]:ينظر: الكتاب 3/324.
[31]:ينظر:الإملاء 1/ 122.
[32]:ينظر: الكشاف 1/335، والمحرر الوجيز 1/397، والبحر المحيط 2/ 389، الدر المصون 2/7. وأما رد الفارسي لكلام أبي إسحاق الزجاج وانتصاره للأخفش فلم أجده في "الحجة" في مظنته، بل إنه لم يحك مذهب كسر الميم.
[33]:ينظر معاني القرآن للزجاج 1/327. وفي ب الذي حكاه الأخفش من كسر الميم- خطأ لا يجوز، ولا تقوله العرب لثقله.
[34]:وهذا الطعن عندي ضعيف، لأن الكسرة حركة فيها بعض الثقل والياء أختها، فإذا اجتمعا، عظم الثقل، ثم يحصل الانتقال منه إلى النطق بالألف في قولك: "الله" وهو في غاية الخفة، فيصير اللسان منتقلا من أثقل الحركات إلى أخف الحركات، والانتقال من الضد إلى الضد دفعة واحدة صعب على اللسان، أما إذا جعلنا الميم مفتوحة، انتقل اللسان من فتحة الميم إلى الألف في قولنا: "الله" فكان النطق بها سهلا، فهذا وجه تقرير قول سيبويه والله أعلم. ينظر الرازي 7/134.
[35]:(10) في أ: وبقوله.
[36]:سقط في أ.
[37]:روي ذلك عن مقاتل، وذكره أبو حيان في البحر المحيط 2/389.
[38]:آية 61 من سورة آل عمران. والبهل: اللعن: وفي حديث ابن الصبغاء قال: الذي بهله بريق أي الذي لعنه ودعا عليه رجل اسمه بريق. وبهله الله بهلا: لعنه. وعليه بهلة الله وبهلته أي لعنته. وفي حديث أبي بكر: من ولي من أمور الناس شيئا فلم يعطهم كتاب الله فعليه بهلة الله أي لعنة الله، وتضم باؤها وتفتح. وباهل القوم بعضهم بعضا وتباهلوا وابتهلوا: تلاعنوا. والمباهلة: الملاعنة. يقال: باهلت فلانا؟ أي لاعنته، ومعنى المباهلة أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا. وفي حديث ابن عباس: من شاء باهلته أن الحق معي. ينظر: اللسان (بهل).