المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٖۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمۡعِهِمۡ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٞ} (29)

ثم ذكر تعالى الآية الكبرى ، الصنعة الدالة على الصانع ، وذلك { خلق السماوات والأرض } .

وقوله تعالى : { وما بث فيهما } يتخرج على وجوه ، منها أن يريد إحداهما فيذكر الاثنين كما قال : { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان }{[10146]}وذلك إنما يخرج من الملح وحده ، ومنها أن يكون تعالى قد خلق السماوات وبث دواب لا نعلمها نحن ، ومنها أن يريد الحيوانات التي توجد في السحاب ، وقد يقع أحياناً كالضفادع ونحوها ، فإن السحاب داخل في اسم السماء . وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال في تفسير : { وما بث فيهما من دابة } هم الناس والملائكة ، وبعيد غير جار على عرف اللغة أن تقع الدابة على الملائكة .

وقوله تعالى : { وهو على جمعهم } يريد القيامة عند الحشر من القبور


[10146]:الآية (22) من سورة (الرحمن).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٖۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمۡعِهِمۡ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٞ} (29)

لما كان إنزال الغيث جامعاً بين كونه نعمة وكونه آية دالة على بديع صنع الله تعالى وعظيم قدرته المقتضية انفراده بالإلهية ، انتقل من ذكره إلى ذكر آيات دالة على انفراد الله تعالى بالإلهية وهي آية خلق العوالم العظيمة وما فيها مما هو مشاهد للناس دون قصد الامتنان . وهذا الانتقال استطراد واعتراض بين الأغراض التي سياق الآيات فيها .

والآيات : جمع آية ، وهي العلامة والدليل على شيء . والسياق دال على أن المراد آيات الإلهية . والسموات : العوالم العليا غير المشاهدة لنا والكواكب وما تجاوزَ الأرضَ من الجو . والأرضُ : الكرة التي عليها الحيوان والنبات . والبث : وضع الأشياء في أمكنة كثيرة .

والدابة : ما يدُبّ على الأرض ، أي يمشي فيشمل الطير لأن الطير يمشي إذا نزل وهو مما أريد في قوله هنا : { فيهما } أي في الأرض وفي السماء ، أي بعض ما يسمى بالسماء وهو الجو وهو ما يلوح للناظر مثل قبة زرقاء على الأرض في النهار ، قال تعالى : { ألم يروا إلى الطير مسخرات في جوّ السماء } [ النحل : 79 ] فإطلاق الدابّة على الطير باعتبار أن الطير يدبّ على الأرض كثيراً لالتقاط الحب وغيرِ ذلك . u وأمّا الموجودات التي في السموات العُلى من الملائكة والأرواح فلا يطلق عليها اسم دابّة . ويجوز أن تكون في بعض السماوات موجودات تدبّ فيها فإن الكواكب من السماوات . والعلماء يترددون في إثبات سكان في الكواكب ، وجوز بعض العلماء المتأخرين أن في كوكب المريخ سكاناً ، وقال تعالى : { ويخلق ما لا تعلمون } [ النحل : 8 ] ، على أنه قد يكون المراد من الظرفية في قوله : { فيهما } ظرفية المجموع لا الجميع ، أي ما بَثَّ في مجموع الأرض والسماء من دابّة ، فالدابّة إنما هي على الأرض ، ولما ذكرت الأرض والسماء مقترنتين وجاء ذكر الدواب جعلت الدواب مظروفة فيهما لأن الأرض محوطة بالسماوات ومتخيّلة منها كالمظروف في ظرفه ، والمظروفُ في ظرف مظروف في ظرف مظروفه كما قال تعالى : { مرَج البحرين يلتقيان } [ الرحمن : 19 ] ثم قال : { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } [ الرحمن : 22 ] واللؤلؤ والمرجان يخرجان من أحد البحرين وهو البحر الملح لا من البحر العذب .

وجملة { وهو على جمعهم إذا يشاء قدير } ، معترضة في جُملة الاعتراض لإدماج إمكان البعث في عُرض الاستدلال على عظيم قدرة الله وعلى تفرده بالإلهية .

والمعنى : أن القادر على خلق السماوات والأرض وما فيهما عن عدممٍ قادر على إعادة خلق بعض ما فيهما للبعث والجزاء لأن ذلك كله سواء في جواز تعلق القدرة به فكيف تعدُّونه محالاً . وضمير الجماعة في قوله : { جمعهم } عائد إلى ما بثّ فيهما من دابّة باعتبار أن الذي تتعلق الإرادة بجمعه في الحشر للجزاء هم العقلاء من الدوابّ أي الإنس . والمراد ب { جمعهم } حشرهم للجزاء ، قال تعالى : { يوم يجمعكم ليوم الجمع } [ التغابن : 9 ] .

وقد ورد في أحاديث في « الصحيح » أن بعض الدواب تحشر للانتِصاف مِمن ظلمها . و { إذا } ظرف للمستقبل وهو هنا مجرد عن تضمن الشرطية ، فالتقدير : حين يشاء في مستقبل الزمان ، وهو متعلق ب { جمعهم } . وهذا الظرف إدماج ثان لإبطال استدلالهم بتأخر يوم البعث على أنه لا يقع كما حُكي عنهم في قوله تعالى : { ويقولون متَى هُو قل عسى أن يكون قريباً } [ الإسراء : 51 ] و { يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون } [ سبأ : 29 ، 30 ] .