اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٖۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمۡعِهِمۡ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٞ} (29)

قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض . . . } الآية قد تقدم الكلام على دلالة خلق السموات والأرض والحيوانات على وجود الإله الحكيم .

فإن قيل : كيف يجوز إطلاق لفظ الدابَّة على الملائكة ؟ ! .

فالجواب : فيه وجوه :

الأول : أنه قد يضاف الفعل إلى جماعة ، وإن كان فاعله واحداً منهم كما يقال : «بَنُو فُلاَنٍ فَعَلُوا كََذَا » ، وإنما فعله واحدٌ م نهم ومنه قوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ }{[49325]} [ الرحمن : 22 ] .

الثاني : أن الدابة عبارة عما فيه الروح والحركة ، والملائكة لهم الروح والحركة .

الثالث : لا يبعد أن يقال : إنه تعالى خلق في السموات أنواعاً من الحيوانات يمشون مشي الأناس على الأرض . وروى العبَّاس ( رضي الله عنه ){[49326]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «فوق السماء السابعة بحر ( بين ){[49327]} أسفله وأعلاه كما بين السماء{[49328]} والأرض ، ثم فوق ذلك ثمانية أوعاٍل بين رُكَبِهِنَّّ{[49329]} وأَظلاَفِهِنَّ كما بين السَّمَاءِ والأرْضِ ، ثُمَّ فَوْقَ ذَلِك العَرْش{[49330]} . . . » الحديث .

قوله : «وَمَا بَثَّ » يجوز أن تكون مجرورة المحل عطفاً على «السموات » أو مرفوعته عطفاً على «خلق » ، على حذف مضاف أي وخلق ما بثَّ . قاله أبو حيان{[49331]} . وفيه نظر ؛ لأنه يئول إلى جره بالإضافة «لِخَلق » المقدر{[49332]} فلا يعدل عنه .

قوله : «إذَا يَشَاءَ » «إذَا » منصوبة «بجَمْعِهِمْ » لا «بِقَدِيرٍ » ، قال أبو البقاء : لأن ذلك يؤدي إلى أن يصير المعنى : وهو على جمعهم قدير إذا يشاء ، فتتعلق القدرة بالمشيئة وهو محال{[49333]} . قال شهاب الدين : وَلاَ أدري ما وجه كونه محالاً على مذهب أهل السنة ، فإن كان يقول بقول المعتزلة ، وهو أن القدرة تتعلق بما لم يشأ الله مشى كلامه ، ولكنه مذهب رديء لا يجوز اعتقاده . ونقول : يجوز تعلق الظرف به أيضاً{[49334]} . قال الزمخشري : «إذا » تدخل على المضارع كما تدخل على الماضي ، قال تعالى : { والليل إذا يغشى } ومنه : «إذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ »{[49335]} ، والمقصود أنه تعالى خلقها لا لعجز ولا لمصلحة ولهذا قال : { وهو على جمعهم إذا يشاء قدير } ، يعنى الجمع والحشر والمحاسبة{[49336]} .

فصل

احتج الجبَّائيُّ بقوله : إذا يشاء قدير على أن مشيئة الله تعالى محدثةٌ ، قال : لأن كلمة «إذا » ظرف لما ( لم ){[49337]} يستقبل من الزمان وكلمة «يَشَاءُ » صيغة المستقبل فلو كانت مشيئته تعالى قديمة لم يكن لتخصيصها بذلك الوقت المستقبل فائدة ، ولما دل قوله : «إذَا يَشَاءُ » على التخصيص علمنا أن مشيئته تعالى محدثة .

وأجيب : بأن هاتين الكلمتين كما دخلتا على المشيئة فقد دخلتا أيضاً على لفظ «القَدِير » فلزم على هذا أن تكون قدرته صفة محدثة ، ولما كان هذا باطلاً فكذا القول في المشيئة{[49338]} .


[49325]:[الرحمن: 22] وانظر تفسير الإمام العلامة الرازي 27/171.
[49326]:سقط من ب.
[49327]:كذلك.
[49328]:في ابن ماجة: بين سماء إلى سماء.
[49329]:وفيه: بين أظلافهن وركبهن.
[49330]:وفيه: فوق ظهورهن العرش، انظر ابن ماجة 1/69 نقلا عن العباس بن عبد المطلب وهو جزء من حديث طويل.
[49331]:البحر المحيط 7/518.
[49332]:في ب المقدرة.
[49333]:التبيان 1133.
[49334]:الدر المصون 4/756.
[49335]:الكشاف 3/470. والآية الأولى من الليل.
[49336]:بتوضيح وتكملة من الرازي لكلام الزمخشري 27/171.
[49337]:زيادة من أ لا معنى لها، فهو تحريف.
[49338]:قاله ونقله الرازي في تفسيره 27/172.