الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٖۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمۡعِهِمۡ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٞ} (29)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ومن آياته} أن تعرفوا توحيد الرب وصنعه، وإن لم تروه.

{خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة}، يعني الملائكة في السماوات والخلائق في الأرض.

{وهو على جمعهم} في الآخرة، {إذا يشاء قدير}...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

ومن حججه عليكم أيها الناس أنه القادر على إحيائكم بعد فنائكم، وبعثكم من قبوركم من بعد بلائكم.

خلقه السموات والأرض، "وما بثّ فيهما من دابة": يعني وما فرّق في السموات والأرض من دابة.

"وَهُوَ على جَمْعِهِمْ إذَا يَشاءُ قَدِيرٌ": وهو على جمع ما بثّ فيهما من دابة إذا شاء جمعه، ذو قدرة لا يتعذّر عليه، كما لم يتعذر عليه خلقه وتفريقه، فكذلك هو القادر على جمع خلقه بحشر يوم القيامة بعد تفرّق أوصالهم في القبور.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{ومن آياته}... من آيات حكمته وعلمه وتدبيره خلق ما ذكر، أو من آيات قدرته وسلطانه ما ذكر، أو من آيات إحسانه ونعمه وأياديه ما ذكر...

ثم اختلفوا في قوله: {وما بثّ فيهما من دابة} قال بعضهم: أي في الأرض خاصة. ألا ترى أنه قال: {من دابة} وهي اسم لما يدبّ؟ وأهل السماء ملائكة، ولهم الطيران دون الدّبيب، وهو كقوله: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} [الرحمن: 22] وإنما يخرج من أحدهما.

وقال بعضهم: {فيهما} أي في السماء الملائكة، وفي الأرض الدوابّ، لكنه سمّى أهل السماء باسم ما في الأرض من الدواب، وذلك جائز في اللغة: ذكر شيئين باسم أحدهما كقوله: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} [البقرة: 45] والكناية ترجع إلى الصلاة لفظا، والمراد ما سبق من الصبر والصلاة.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

{وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ}: والإشارة منها أَنَّ الحقَّ -سبحانه- يغار على أوليائه أن يَسْكَنَ بعضُهم بقلبه إلى بعضٍ؛ فأبداً يُبَدِّدُ شمْلَهم، ولا تكاد الجماعةُ من أهل القلوب تتفق في موضعٍ واحد إلا نادراً، وذلك لمدةٍ يسيرة.

وفي بعض الأحايين قد يتفضَّل الحقُّ عليهم فتدنو بهم الديار، ويحصل بينهم -في الظاهر- اجتماعٌ والتقاءٌ، فيكون في ذلك الوقت قد نظر الحقُّ -سبحانه- بفضله إلى أنَّ في اجتماعهم بركاتٍ لحياة العالَم.

وهذا -وإن كان نادراً- فإنه على جَمْعِهم -إذا يشاء- قدير.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ومن آياته} العظيمة على ذلك وعلى استحقاقه لجميع صفات الكمال

{خلق السماوات} التي تعلمون أنها متعددة بما ترون من أمور الكواكب.

{والأرض} أي جنسها على ما هما عليه من الهيئات وما اشتملا عليه من المنافع والخيرات.

{وما بث} أي فرق بالأبدان والقلوب على هذا المنوال الغريب من الحس والحركة بالاختيار مع التفاوت في الأشكال، والقدور والهيئات والأخلاق وغير ذلك من النقص والكمال.

ولما كانت الأرض بناء والسماء سقفه، فمن كان في أحدهما صح نسبته إلى أنه في كل منهما: الأسفل بالإقلال والأعلى بالإظلال قال تعالى: {فيهما} أي السماوات والأرض ولا سيما وقد جعل لكل منهما تسبباً في ذلك بما أودعهما من الجواهر وأنشأ عنهما من العناصر.

ولما كانت الحياة التي هي سبب الانتشار والدب ربما أورثت صاحبها كبراً وغلظاً في نفسه نظن أنه تام القدرة، أنث تحقيراً لقدرته وتوهية لشأنه ورتبته فقلل {من دابة} أي شيء فيه أهلية الدبيب بالحياة من الإنس والجن والملائكة وسائر الحيوانات ومن نظر إلى صنائعه سبحانه تيقن وجوده وقدرته واختياره، ثم إذا أمعن في النظر وتابع التدبر في الفكر وصل إلى معرفة الصانع بأسمائه وصفاته وما ينبغي له ويستحيل عليه فيحمده بمحامده التي لا نهاية لها ويسبحه بسبحاته ثم إن أمعن سما إلى الوقوف على حكمة ما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ومن آياته خلق السماوات والأرض، وما بث فيهما من دابة. وهو على جمعهم إذا يشاء قدير. وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير. وما أنتم بمعجزين في الأرض، وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير..

وهذه الآية الكونية معروضة على الأنظار، قائمة تشهد بذاتها على ما جاء الوحي ليشهد به، فارتابوا فيه واختلفوا في تأويله. وآية السماوات والأرض لا تحتمل جدلا ولا ريبة. فهي قاطعة في دلالتها، تخاطب الفطرة بلغتها، وما يجادل فيها مجادل وهو جاد. إنها تشهد بأن الذي أنشأها ودبرها ليس هو الإنسان، ولا غيره من خلق الله. ولا مفر من الاعتراف بمنشئ مدبر. فإن ضخامتها الهائلة، وتناسقها الدقيق، ونظامها الدائب، ووحدة نواميسها الثابتة.. كل أولئك لا يمكن تفسيره عقلاً إلا على أساس أن هناك إلهاً أنشأها ويدبرها. أما الفطرة فهي تتلقى منطق هذا الكون تلقياً مباشراً، وتدركه وتطمئن إليه، قبل ان تسمع عنه كلمة واحدة من خارجها!

وتنطوي آية السماوات والأرض على آية أخرى في ثناياها: (وما بث فيهما من دابة).. والحياة في هذه الأرض وحدها -ودع عنك ما في السماوات من حيوات أخرى لا ندركها- آية اخرى. وهي سر لم ينفذ إلى طبيعته أحد، فضلاً على التطلع إلى إنشائه. سر غامض لا يدري أحد من أين جاء، ولا كيف جاء، ولا كيف يتلبس بالأحياء! وكل المحاولات التي بذلت للبحث عن مصدره أو طبيعته أغلقت دونها الستر والأبواب؛ وانحصرت البحوث كلها في تطور الأحياء -بعد وجود الحياة- وتنوعها ووظائفها؛ وفي هذا الحيز الضيق المنظور اختلفت الآراء والنظريات. فأما ما وراء الستر فبقي سراً خافياً لا تمتد إليه عين، ولا يصل إليه إدراك.. إنه من أمر الله. الذي لا يدركه سواه.

هذه الأحياء المبثوثة في كل مكان. فوق سطح الأرض وفي ثناياها. وفي أعماق البحر وفي أجواز الفضاء -ودع عنك تصور الأحياء الأخرى في السماء- هذه الأحياء المبثوثة التي لا يعلم الإنسان منها إلا النزر اليسير، ولا يدرك منها بوسائله المحدودة إلا القليل المشهور. هذه الأحياء التي تدب في السماوات والأرض يجمعها الله حين يشاء، لا يضل منها فرد واحد ولا يغيب!

وبنو الإنسان يعجزهم أن يجمعوا سربا من الطير الأليف ينفلت من أقفاصهم، أو سرباً من النحل يطير من خلية لهم!

وأسراب من الطير لا يعلم عددها إلا الله. وأسراب من النحل والنمل وأخواتها لا يحصيها إلا الله. وأسراب من الحشرات والهوام والجراثيم لا يعلم مواطنها إلا الله. وأسراب من الأسماك وحيوان البحر لا يطلع عليها إلا الله. وقطعان من الأنعام والوحش سائمة وشاردة في كل مكان. وقطعان من البشر مبثوثة في الأرض في كل مكان.. ومعها خلائق أربى عدداً وأخفى مكاناً في السماوات من خلق الله.. كلها.. كلها.. يجمعها الله حين يشاء..

وليس بين بثها في السماوات والأرض وجمعها إلا كلمة تصدر. والتعبير يقابل بين مشهد البث ومشهد الجمع في لمحة على طريقة القرآن؛ فيشهد القلب هذين المشهدين الهائلين قبل أن ينتهي اللسان من آية واحدة قصيرة من القرآن!