و { شروه } - هنا - بمعنى باعوه ، وقد يقال : شرى ، بمعنى اشترى ، ومن الأول قول يزيد بن مفرغ الحميري : [ مجزوء الكامل ]
وشريتُ برداً ليتني*** من بعد بردٍ كنتُ هامَهْ{[6614]}
برد : اسم غلام له ندم على بيعه ، والضمير يحتمل الوجهين المتقدمين ؛ و { البخس } مصدر وصف به «الثمن » وهو بمعنى النقص - وهذا أشهر معانيه - فكأنه القليل الناقص ، وهو قول الشعبي - وقال قتادة : «البخس » هنا بمعنى الظلم ، ورجحه الزجاج من حيث الحر لا يحل بيعه ، وقال الضحاك : وهو بمعنى الحرام ، وهذا أيضاً بمعنى لا يحل بيعه .
وقوله : { دراهم معدودة } عبارة عن قلة الثمن لأنها دراهم لم تبلغ أن توزن لقلتها ، وذلك أنهم كانوا لا يزنون ما دون الأوقية ، وهي أربعون درهماً ، واختلف في مبلغ ثمن يوسف عليه السلام : فقيل باعوه بعشرة دراهم ، وقال ابن مسعود : بعشرين ، وقال مجاهد : باثنين وعشرين أخذ منها إخوته درهمين درهمين {[6615]} وقال عكرمة : بأربعين درهماً دفعت ناقصة خفافاً ، فهذا كان بخسها .
وقوله : { وكانوا فيه من الزاهدين } وصف يترتب في «ورّاد » الماء ، أي كانوا لا يعرفون قدره ، فهم لذلك قليل اغتباطهم به ، لكنه أرتب في إخوة يوسف إذ حقيقة الزهد في الشيء إخراج حبه من القلب ورفضه من اليد ، وهذه كانت حال إخوة يوسف في يوسف ، وأما الورّاد فتمسكهم به وتجرهم يمانع زهدهم إلا على تجوز .
وقوله { فيه } ليست بصلة ل { الزاهدين } - قاله الزجاج وفيه نظر لأنه يقتضي وصفهم بالزهد على الإطلاق وليس قصد الآية هذا ، بل قصدها الزهد الخاص في يوسف ، والظروف يجوز فيها من التقديم ما لا يجوز في سائر الصلات ، وقد تقدم القول في عود ضمير الجماعة الذي في قوله : { وشروه } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يقول الله تعالى: {وشروه}، يعني: وباعوه، {بثمن بخس}، بثمن حرام لا يحل لهم بيعه؛ لأنه حر، وثمن الحر حرام وبيعه حرام، {دراهم معدودة}... وكانت العرب تبايع بالأقل، فإذا كانت أربعين فهي أوقية، وما كان دون الأربعين، فهي دراهم معدودة، {وكانوا فيه}، يعني: الذين باعوه كانوا في يوسف {من الزاهدين}، حين باعوه، ولم يعلموا منزلة يوسف عند الله، ومن أبوه، ولو علموا ذلك ما باعوه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله: {وشروه} به: وباع إخوة يوسف يوسف...
عن مجاهد: إخوة يوسف أحد عشر رجلا باعوه حين أخرجَه المدلي بدلوه...
وقال آخرون: بل عنى بقوله: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ}: السيارة أنهم باعوا يوسف بثمن بخس...
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: تأويل ذلك: وشرى إخوة يوسف يوسف بثمن بخس، وذلك أن الله عزّ وجلّ قد أخبر عن الذين اشتروه أنهم أسرّوا شراء يوسف من أصحابهم خيفة أن يستشركوهم بادعائهم أنه بضاعة، ولم يقولوا ذلك إلا رغبة فيه أن يخلص لهم دونهم، واسترخاصا لثمنه الذي ابتاعوه به، لأنهم ابتاعوه، كما قال جلّ ثناؤه، {بِثَمَنٍ بَخْسٍ}. ولو كان مبتاعوه من إخوته فيه من الزاهدين، لم يكن لقيلهم لرفقائهم: هو بضاعة معنى، ولا كان لشرائهم إياه وهم فيه من الزاهدين وجه، إلا أن يكونوا كانوا مغلوبا على عقولهم؛ لأنه محال أن يشترى صحيح العقل ما هو فيه زاهد من غير إكراه مكره له عليه، ثم يكذب في أمره الناس بأن يقول: هو بضاعة لم أشتره مع زهده فيه، بل هذا القول من قول من هو بسلعته ضنين لنفاستها عنده، ولما يرجو من نفيس الثمن لها وفضل الربح.
وأما قوله: {بَخْسٍ}، فإنه يعني: نقص، وهو مصدر من قول القائل: بَخِسْتُ فلانا حقه: إذا ظلمته، يعني: ظلمه فنقصه عما يجب له من الوفاء، أبْخَسُهُ بخسا ومنه قوله: {وَلا تَبْخَسُوا النّاسَ أشْياءَهُمْ}. وإنما أريد بثمن مبخوس: منقوص، فوضع البخس وهو مصدر مكان مفعول، كما قيل: {بِدَمٍ كَذِبٍ}، وإنما هو بدم مكذوب فيه.
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛ فقال بعضهم: قيل: {بِثَمَنٍ بَخْسٍ}؛ لأنه كان حراما عليهم... وقال آخرون: معنى البخس هنا: الظلم... وقال آخرون: عُني بالبخس في هذا الموضع: القليل... وأما قوله: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ}، فإنه يعني عز وجلّ: أنهم باعوه بدراهم غير موزونة ناقصة غير وافية لزهدهم فيه. وقيل: إنما قيل معدودة ليعلم بذلك أنها كانت أقلّ من الأربعين، لأنهم كانوا في ذلك الزمان لا يزنون ما كان وزنه أقلّ من أربعين درهما، لأن أقلّ أوزانهم وأصغرها كان الأوقية، وكان وزن الأوقية أربعين درهما. قالوا: وإنما دلّ بقوله: {مَعْدُودَةٍ}، على قلة الدراهم التي باعوه بها...
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنهم باعوه بدراهم معدودة غير موزونة، ولم يحَدّ مبلغ ذلك بوزن ولا عدد، ولا وضع عليه دلالة في كتاب ولا خبر من الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد يحتمل أن يكون كان عشرين، ويحتمل أن يكون كان اثنين وعشرين، وأن يكون كان أربعين، وأقلّ من ذلك وأكثر، وأيّ ذلك كان فإنها كانت معدودة غير موزونة وليس في العلم بمبلغ وزن ذلك فائدة تقع في ديِن ولا في الجهل به دخول ضرّ فيه، والإيمان بظاهر التنزيل فرض، وما عداه فموضوع عنا تكلّف علمه.
وقوله: {وكانُوا فِيهِ مِنَ الزّاهِدِينَ}، يقول تعالى ذكره: وكان إخوة يوسف في يوسف من الزاهدين، لا يعلمون كرامته عند الله، ولا يعرفون منزلته عنده، فهم مع ذلك يحبون أن يحولوا بينه وبين والده ليخلو لهم وجهه منه، ويقطعوه عن القرب منه لتكون المنافع التي كانت مصروفة إلى يوسف دونهم مصروفة إليهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... (وكانوا فيه من الزاهدين) حين باعوه بثمن الدون والنقصان بما لا يباع مثله بمثل ذلك الثمن خشية أن يجتبيهم طالب لما علموا أن مثل هذا، لو كان مملوكا لا يترك هكذا، لا يطلب، فباعوه بأدنى ثمن يكون لهم، لا كما يبيع الرجل ملكه على رغبة منه، خشية الطلب والاستنفاذ من أيديهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لم يعرفوا خسرانهم في الحال ولكنهم وقفوا عليه في المآل. ويقال قد يُبَاعُ مثل يوسف عليه السلام بثمن بخس، ولكن إذا وقعت الحاجةُ إليه فعند ذلك يعلم ما يلحق من الغَبْن. ويقال: لم يحتشموا من يوسف -عليه السلام- يوم باعوه بثمنٍ بَخْسٍ، ولكن لمَّا قال لهم: أنا يوسف وقع عليهم الخجل، ولهذا قيل: كفى للمقصر الحياء يوم اللقاء. ويقال لمَّا خَرُّوا له سُجَّداً علموا أنَّ ذلك جزاءُ مَنْ باع أخاه بثمنٍ بخسٍ. ويقال لمَّا وصل الناسُ إلى رفق يوسف عاشوا في نعمته، واحتاجوا إلى أن يقفوا بين يديه في مقام الذُّلِّ قائلين {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} [يوسف:88]، ويقال ليس العجب ممن يبيع يوسف- عليه السلام -بثمنٍ بخسٍ، إنما العجب ممن يبيع وقته الذي أعزُّ من الكبريت الأحمر بعَرَضٍ حقيرٍ من أعراض الدنيا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَشَرَوْهُ} وباعوه {بِثَمَنٍ بَخْسٍ} مبخوس ناقص عن القيمة نقصاناً ظاهراً، أو زيف ناقص العيار {دراهم} لا دنانير {مَّعْدُودَةً} قليلة تعدّ عدّاً ولا توزن، لأنهم كانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقية وهي الأربعون، ويعدّون ما دونها. وقيل للقليلة معدودة؛ لأنّ الكثيرة يمتنع من عدّها لكثرتها...
{وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين} ممن يرغب عما في يده فيبيعه بما طف من الثمن لأنهم التقطوه، والملتقط للشيء متهاون به لا يبالي بم باعه، ولأنه يخاف أن يعرض له مستحق ينتزعه من يده فيبيعه من أوّل مساوم بأوكس الثمن. ويجوز أن يكون معنى {وَشَرَوْهُ} واشتروه، يعني الرفقة من إخوته {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزهدين} لأنهم اعتقدوا أنه آن فخافوا أن يخطروا بما لهم فيه.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
وَقِيلَ فِي بَخْسٍ: إنَّهُ بِمَعْنَى حَرَامٍ، وَلَا وَجْهَ لَهُ، وَإِنَّمَا الْإِشَارَةُ فِيهِ إلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ ثَمَنَهُ بِالْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ إخْوَتَهُ إنْ كَانُوا بَاعُوهُ فَلَمْ يَكُنْ قَصْدُهُمْ مَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْ ثَمَنِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُمْ مَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْ خُلُوِّ وَجْهِ أَبِيهِمْ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ بَاعُوهُ هُمْ الْوَارِدَةُ فَإِنَّهُمْ أَخْفَوْهُ مُقْتَطَعًا، أَوْ قَالُوا لِأَصْحَابِهِمْ: أرْسِل مَعَنَا بِضَاعَةً، فَرَأَوْا أَنَّهُمْ لَمْ يُعْطوْا عَنْهُ ثَمَنًا، وَأَنَّ مَا أَخَذُوهُ فِيهِ رِبْحٌ كُلُّهُ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان سرورهم به -مع ما هو عليه من الجمال والهيبة والجلال- مقتضياً لأن ينافسوا في أمره ويغالوا بثمنه، أخبر تعالى أنهم لم يفعلوا ذلك ليعلم أن جميع أموره على نسق واحد في خرقها للعوائد فقال: {وشروه} أي تمادي السيارة ولجوا في إسرارهم إياه بضاعة حتى باعوه من العزيز، ولمعنى التمادي عبر ب "شرى "دون "باع"، ويمكن أن يكون" شرى "بمعنى اشترى، أي واشتراه السيارة من إخوته {بثمن} وهو البدل من الذهب أو الفضة، وقد يقال على غيره تشبيهاً به {بخس} أي قليل... ولما كان البخس القليل الناقص، أبدل منه -تأكيداً للمعنى تسفيهاً لرأيهم وتعجيباً من حالهم- قوله: {دراهم} أي لا دنانير {معدودة} أي أهل لأن تعد، لأنه لا كثرة لها يعسر معها ذلك، روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها كانت عشرين درهماً {وكانوا} أي كوناً هو كالجبلة {فيه} أي خاصة دون بقية متاعهم، انتهازاً للفرصة فيه قبل أن يعرف عليهم فينزع من أيديهم {من الزاهدين} أي كمال الزهد حتى رغبوا عنه فباعوه بما طف، والزهد: انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه عند الزاهد، وهذا يعين أن الضمير للسيارة لأن حال إخوته في أمره فوق الزهد بمراحل، فلو كان لهم لقيل: وكانوا له من المبعدين أو المبغضين، ونحو ذلك...