اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَشَرَوۡهُ بِثَمَنِۭ بَخۡسٖ دَرَٰهِمَ مَعۡدُودَةٖ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّـٰهِدِينَ} (20)

قوله : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ } شَرَى بمعنى اشترى ، قال الشاعر : [ الطويل ]

3071 ولَوْ أنَّ هَذَا المَوْتَ يَقبَلُ فِذْيةً *** شَرَيْتُ أبَا زيْدٍ بمَا مَلكتْ يَدِي

وبمعنى : باع ؛ قال الشاعر : [ مجزوء الكامل ]

3072 وشَريْتُ بُرْداً ليْتَنِي *** مِنْ بعْدِ بُردٍ كُنْتُ هَامَهْ

فإن قلنا : المراد من الشِّراء نفس الشراءِ ، فالمعنى : أنَّ القوم اشتروه ، وكانوا فيه من الزَّاهدينَ ؛ لأنهم علموا بقرائن الأحوال أنَّ إخوة يوسف كذبُوا في قولهم : إنَّهُ عبدُ لنا ، وأيضاً عرفوا أنَّه ولدُ يعقوب ، فكرهوا أيضاً شراءه ؛ خوفاً من الله تعالى من ظهور تلك الواقعة ، إلاَّ أنَّهُم مع ذلك اشتروه بالآخة ؛ لأنُّهُم اشتروه بمثنٍ بخسٍ ، وطمعوا في بيعه بمثن عظيمٍ ، ويحتملُ أن يقال : إنهم اشتروه مع أنهم أظهرُوا من أنفسهم كونهم فيه من الزَّاهدين ، وغرضهم أن يتوصَّلُوا بذلك إلى تقلل الثَّمن ، ويحتمل أن يقال : إنَّ الإخوة لما قالوا : إنه عبدٌ أبق منا صار المشتري عديم الرغبة فيه .

قال مجاهدُ رحمه الله كانوا يقولون : لئلا يأبق .

وإن قلنا : إنَّ المراد من الشِّراء البيع ففي ذلك البائع قولان :

الأول : قال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما إنَّ إخوة يوسف لمَّا طرحوه في الجبّ ، ورجعوا عادوا بعد ثلاثٍ يتعرَّفُونَ خبره ، فلمَّا لم يروه في الجبّ ، ورأوا آثار السَّيارة طلبوهم ، فلمَّا رأوا يوسف قالوا : : هذا عبدٌ لنا أبق منا فقالوا لهم : فبيعوه منَّا ، فباعوه منهم ، وإنَّما وجب حملُ الشِّراء على البيع ؛ لأن الضمير في قوله : " وشَرَوْهُ " وفي قوله : { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين } عائدٌ إلى شيءٍ واحدٍ ، وإذا كان كذلك فهم باعوه ؛ فوجب حملُ الشراء على البيع .

والثاني : أن بائع يوسف هم الَّذين اسْتَخْرجُوه من الجُبّ .

وقال محمد بن إسحاق : وربُّك أعلمُ أإخوته باعوه ، أم السيارة ؟ .

والبَخْسق : النَّاقصُ ، وهو في الأصل مصدرٌ ، وصف به مبالغة .

وقيل : هو بمعنى مفعولٍ ، و " دَراهِمَ " بدلٌ من " بِثَمَنٍ " ، و " فِيهِ " متعلق بما بعده ، واغتفر ذلك للاتِّساعِ في الظروف ، والجار ، أو بمحذوف وتقدم [ البقرة : 130 ] مثله .

فصل

اعلم أنه تعالى وصف ذلك الثمن بصفات ثلاثٍ :

إحداها : كونه بخساً ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريدُ حراماً ؛ لأنَّ ثمن الحُرَّ حرامٌ ، وقال : وكلٌّ بخس في كتابِ اللهِ نقصان إلاَّ هذا فإنهُ حرامٌ .

قال الواحدي : " سمي الحرامُ بخساً ؛ لأن ناقصُ البركة " .

وقال قتادة : بخس : ظلم ، والظُّلمُ نقصان ، يقال : ظلمهُ ، أي : نقصهُ وقال عكرمةُ والشعبيُّك قليل . وقيل : ناقص عن القيمة نقصاناً ظاهراً وقيل : كانت الدَّراهمُ زيوفاً ناقصة العيارِ .

قال الواحديُّ : وعلى الأقوال كُلِّها ، فالبخسُ مصدرٌ وقع موصع الاسمِ ، والمعنى : بثمنٍ مبخُوسٍ .

وثانيها : قوله : { دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } قيل : تعدُّ عدًّا ، ولا توزن إلا أنهم كانوا يزنون إذا بلغ الأوقية ، وهي أربعون ويعدُّون ما دونها . فقيل للقليل معدودٌ ، لأن الكثير لا يعدُّ لكثرته ، بل يوزن قال ابن عباسٍ ، وابنُ مسعود ، وقتادةٌ رضي الله عنهم : كانت عشرين درهماً ، فاقتسموها درهمين درهمين إلا يهوذا ، فإنَّه لم يأخذ شيئاً .

الثالث : أن الذين اشتروه كانوا فيه مِنَ الزَّاهدين ، وقد سبق توجيه هذه الأقوال .

وقال مجاهدٌ والسديُّ : اثنين وعشرين درهماً .

فإن قيل : إنَّهم لما ألقوه في الجبِّ حسداًن فأرادوا تضييعه عن أبييه ، فلمَ باعوه ؟ .

فالجواب : أنَّهم لعلَّهم خافوا أن تذكر السيارة أمره ، فيردوه إلى أبيه ، لأنَّه كان أقرب إليهم من مصر .

فإن قيل : هب أنَّهم أرادوا ببيعه أيضاً تبعيده عن أبيه ؛ فلمَ أحلَّ له أخذ ثمنه " .

فالجواب : أن الذي اشترى يوسف كان كافراً ، وأخذُ مالِ الكافرِ حلالٌ .

وثالثها : قوله : { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين } ومعنى الزُّهد : قلَّة الرغبة ، يقال زهد فلان في كذا إذا لم يرغب فيه ، وأصله من القلَّة ، يقال : رجلٌ زهيدٌ ، إذا كان قليل الجِدةِ ، وفيه وجوه :

الأول : أنَّ إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام باعوه ؛ لأنهم كانوا فيه من الزَّاهدينَ

الثاني : أنَّ السيَّارة كانُوا فيه من الزَّاهدين ؛ لأنَّهم التَقطُوهُ ، والملتَقِطُ يتهاونُ ، ولا يباللاي بأي شيءٍ يباعُ ، أو لأنَّهُم خافوا أن يظهر المستحق ، فينزعه من يدهم ، فلا جرم باعوه بالأوكس من الأثمان .

والضمير في قوله : " فِيهِ " يحتمل أن يعود إلى يوسف ، ويحتمل أن يعود إلى الثَّمن البَخْسِ .

فصل

قال القرطبيُّ : " في الآية دليلٌ على شراءِ الشَّيء الخطيرِ بالثَّمنِ اليسير ، ويكونُ البيع لازماً " .