المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{تَبَارَكَ ٱلَّذِيٓ إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيۡرٗا مِّن ذَٰلِكَ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ وَيَجۡعَل لَّكَ قُصُورَۢا} (10)

وقوله تعالى : { تبارك الذي } الآية رجوع بأمور محمد صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى ، أي هذه جهتك لا هؤلاء الضالون في أمرك ، والإشارة في ذلك قال مجاهد هي إلى ما ذكره الكفار من الكنز والجنة في الدنيا ، وقال ابن عباس هي إلى أكله الطعام ومشيه في الأسواق ، وقال الطبري والأول أظهر .

قال القاضي أبو محمد : لأن هذا التأويل الثاني يوهم أن الجنّات والقصور التي في هذه الآية هي في الدنيا وهذا تأويل الثعلبي وغيره ، ويرد ذلك قوله تعالى بعد ذلك { بل كذبوا بالساعة }{[8784]} [ الفرقان : 11 ] والكل محتمل ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحفص ونافع وأبي عمرو وحمزة والكسائي «ويجعلْ » بالجزم على العطف على موضع الجواب في قوله { جعل } لأن التقدير «تبارك الذي إن يشأ يجعل » .

وقرأ أبو بكر عن عاصم أيضاً وابن كثر وابن عامر «ويجعلُ » بالرفع والاستئناف ، وهي قراءة مجاهد ، ووجوه العطف على المعنى في قوله { جعل } لأن جواب الشرط هو موضِع الاستئناف ، ألا ترى أن الجمل من الابتداء والخبر قد تقع موقع جواب الشرط ، وقرأ عبد الله بن موسى وطلحة بن سليمان «ويجعلَ » بالنصب وهو على تقدير «أن » في صدر الكلام ، قال أبو الفتح هي على جواب الجزاء بالواو وهي قراءة ضعيفة ، وأدغم الأعرج { ويجعل لك } وروي ذلك عن ابن محيصن ، و «القصور » البيوت المبنية بالجدرات قاله مجاهد وغيره ، وكانت العرب تسمي ما كان من الشعر والصوف والقصب{[8785]} بيتاً ، وتسمي ما كان بالجدرات قصراً لأنه قصر عن الداخلين{[8786]} والمستأذنين .


[8784]:قيل: لا يرده لأن المعنى به متمكن، وهو عطف على ما حكي عنهم، يقول: بل أتي بأعجب من ذلك كله وهو تكذيبهم بالساعة. وقد قال ابن عطية: والكل محتمل.
[8785]:القصب: كل نبات كانت ساقه أنابيب وكعوبا، ونبات مائي من الفصيلة النجيلية له سوق طوال (الغاب البلدي).
[8786]:في القرطبي: "لأن من فيه مقصور عن أن يوصل إليه".
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{تَبَارَكَ ٱلَّذِيٓ إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيۡرٗا مِّن ذَٰلِكَ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ وَيَجۡعَل لَّكَ قُصُورَۢا} (10)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{تبارك الذي} {إن شاء جعل لك خيرا من ذلك} يعني: أفضل من الكنز والجنة في الدنيا، وجعل لك في الآخرة {جنات تجري من تحتها الأنهار} يقول: بينها الأنهار {ويجعل لك قصورا}، يعني: بيوتا في الجنة، وذلك أن قريشا يسمون بيوت الطين القصور.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"تَبارَكَ الّذِي إنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرا مِنْ ذلكَ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتَها الأنهَارُ" يقول تعالى ذكره: تقدس الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك.

واختلف أهل التأويل في المعنىّ ب«ذلك» التي في قوله: "جَعَلَ لَكَ خَيْرا مِنْ ذَلكَ"؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: خيرا مما قال هؤلاء المشركون لك يا محمد، هلا أوتيته وأنت لله رسول، ثم بين تعالى ذكره عن الذي لو شاء جعل له من خير مما قالوا، فقال: "جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهَارُ"... [روي هذا القول عن مجاهد]

وقال آخرون: عُنِي بذلك المشي في الأسواق والتماس المعاش...

والقول الذي ذكرناه عن مجاهد في ذلك أشبه بتأويل الآية، لأن المشركين إنما استعظموا أن لا تكون له جنة يأكل منها وأن لا يُلْقى إليه كنز، واستنكروا أن يمشي في الأسواق وهو لله رسول. فالذي هو أولى بوعد الله إياه أن يكون وعدا بما هو خير ما كان عند المشركين عظيما، لا مما كان منكرا عندهم. وعُنِي بقوله: "جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهَارُ "بساتين تجري في أصول أشجارها الأنهار...

وقوله: "وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورا" يعني بالقصور: البيوت المبنية... عن مجاهد: "وَيجْعَل لَكَ قُصُورا" قال: بيوتا مبنية مشيدة، كان ذلك في الدنيا. قال: كانت قريش ترى البيت من الحجارة قصرا كائنا ما كان...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

تكاثر خير {الذى إِن شَاءَ} وهب لك في الدنيا {خَيْرًا} مما قالوا، وهو أن يعجل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا} نبه بذلك سبحانه على أنه قادر على أن يعطي الرسول كل ما ذكروه، ولكنه تعالى يدبر عباده بحسب الصالح أو على وفق المشيئة ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله، فيفتح على واحد أبواب المعارف والعلوم، ويسد عليه أبواب الدنيا، وفي حس الآخر بالعكس وما ذاك إلا أنه فعال لما يريد... {خيرا من ذلك} أي من المشي في الأسواق وابتغاء المعاش... {إن شاء} معناه أنه سبحانه قادر على ذلك لا أنه تعالى شاك لأن الشك لا يجوز على الله تعالى، وقال قوم: {إن} ههنا بمعنى إذا، أي قد جعلنا لك في الآخرة جنات وبنينا لك قصورا وإنما أدخل إن تنبيها للعباد على أنه لا ينال ذلك إلا برحمته، وأنه معلق على محض مشيئته وأنه ليس لأحد من العباد على الله حق لا في الدنيا ولا في الآخرة.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{تبارك} أي ثبت ثباتاً مقترناً باليمن والبركة، لا ثبات إلا هو {الذي إن شاء} فإنه لا مكره له {جعل لك خيراً من ذلك} أي الذي قالوه على سبيل التهكم؛ ثم أبدل منه قوله: {جنات} فضلاً عن جنة واحدة {تجري من تحتها الأنهار} أي تكون أرضها عيوناً نابعة، أي موضع أريد منه إجراء نهر جرى، فهي لا تزال رياً تغني صاحبها عن كل حاجة ولا تحوجه في استثمارها إلى سقي.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وينهي هذا الجدل ببيان تفاهة ما يقترحون وما يتصورون من أعراض الحياة الدنيا، التي يحسبونها ذات قيمة، ويرونها أجدر أن يعطيها الله لرسوله إن كان حقا رسولا، من كنز يلقى إليه، أو جنة يأكل منها. فلو شاء الله لأعطاه أكبر مما يقترحون من هذا المتا ع: (تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك: جنات تجري من تحتها الأنهار، ويجعل لك قصورا).

ولكنه شاء أن يجعل له خيرا من الجنات والقصور. الاتصال بواهب الجنات والقصور. و الشعور برعايته وحياطته، وتوجيهه وتوفيقه.. وتذوق حلاوة ذلك الاتصال، الذي لا تقاربه نعمة من النعم، ولا متاع صغر أو عظم. وشتان شتان لو كانوا يدركون أو يتذوقون!

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

"تبارك" أي تكاثرت وتسامت بركة الله تعالى على أوليائه وعلى المرسلين من عباده، وعلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين {إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} علقه سبحانه وتعالى على مشيئته التي تكون على مقتضى حكمته...ولكن الله تعالى لم يشأ لأنبيائه زخارف الحياة، ولكن اختار لهم مشقة الحياة وأن يعيشوا على الكفاف، لأنه حيث كان القل من العيش كان الإخلاص والاتجاه الكامل إلى الله تعالى، لا يشغله عنه شاغل من متع هذه الحياة

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

(تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصوراً). و إلاّ، فهل أحدٌ غير الله أعطى الآخرين القصور والبساتين؟ من غير الله خلق جميع هذه النعم والجمال في هذا العالم؟ تُرى أيستحيل على الله القادر المنّان أن يجعل لك أفضل من هذه القصور والبساتين؟! لكنّه لا يريد أبداً أن يعتقد الناس أن مكانتك مردُّها المال والثروة والقصور، ويكونوا غافلين عن القيم الواقعية. إنه يريد أن تكون حياتك كالأفراد العاديين والمستضعفين والمحرومين، حتى يمكنك أن تكون ملاذاً لجميع هؤلاء ولعموم الناس. أمّا لماذا يقول قصوراً وبساتين أفضل ممّا أراده أُولئك؟ فلأن «الكنز» وحده ليس حلاّل المشاكل، بل ينبغي بعد مزيد عناء أن يستبدل بالقصور والبساتين، مضافاً إلى أنّهم كانوا يقولون: ليكن لك بستان يؤمن معيشتك، أمّا القرآن فيقول: إن الله قادر على أن يجعل لك قصوراً وبساتين، لكن الهدف من بعثتك ورسالتك شيء آخر.