نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{تَبَارَكَ ٱلَّذِيٓ إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيۡرٗا مِّن ذَٰلِكَ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ وَيَجۡعَل لَّكَ قُصُورَۢا} (10)

ولما ثبت أنه لا وجود لهم لأنهم لا علم لهم ولا قدرة ، وأنهم لا يمن لهم ولا بركة ، لا على أنفسهم ولا غيرهم ، أثبت لنفسه سبحانه ما يستحق من الكمال الذي يفيض به على من يشاء من عباده ما يشاء فقال : { تبارك } أي ثبت ثباتاً مقترناً باليمن والبركة ، لا ثبات إلا هو { الذي إن شاء } فإنه لا مكره له { جعل لك خيراً من ذلك } أي الذي قالوه على سبيل التهكم ؛ ثم أبدل منه قوله : { جنات } فضلاً عن جنة واحدة { تجري من تحتها الأنهار } أي تكون أرضها عيوناً نابعة ، أي موضع أريد منه إجراء نهر جرى ، فهي لا تزال رياً تغني صاحبها عن كل حاجة ولا تحوجه في استثمارها إلى سقي .

ولما كان القصر - وهو البيت المشيد - ليس مما يستمر فيه الجعل كالجنة التي هذه صفتها ، عبر فيه بالمضارع إيذاناً بالتجديد كلما حصل خلل يقدح في مسمى القصر فقال : { ويجعل لك قصوراً* } أي بيوتاً مشيدة تسكنها بما يليق بها من الحشم والخدم ، قال البغوي : والعرب تسمي كل بيت مشيد قصراً . وهذه العبارة الصالحة لأن يجعل له سبحانه ذلك في الدنيا مما فتت في أعضادهم ، وخافوا غائلتها فسهلت من قيادهم ، لعلمهم بأن مراسله قادر على ما يريد ، لكنه سبحانه أغناه عن ذلك بتأييده بالأعوان ، من الملائكة والإنس والجان ، حتى اضمحل أمرهم ، وعيل صبرهم ، ولم يشأ سبحانه ما أشار إليه في هذه الآية الشريفة في هذه الدنيا الفانية ، وأخره إلى الآخرة الباقية ، وقد عرض سبحانه عليه ما شاء من ذلك في الدنيا فأباه ، روى البغوي من طريق ابن المبارك ، والترمذي - وقال : حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

" عرض عليّ ربي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهباً ، فقلت : لا يا رب ! ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً ، فإذا جعت تضرعت إليك ودعوتك ، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك " وروي من طريق أبي الشيخ عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو شئت لسارت معي جبال الذهب جاءني ملك إن حجزته لتساوي الكعبة فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك : إن شئت نبياً عبداً وإن شئت نبياً ملكاً ، فنظرت إلى جبريل عليه الصلاة والسلام فأشار إلي أن ضع نفسك ، فقلت : نبياً عبداً قال : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لا يأكل متكئاً ويقول : " آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد " " وسيأتي في سورة سبأ عند

{ وأرسلنا له عين القطر }[ سبأ : 12 ] ما يتم هذا ، ولا يبعد عندي أن يكون أشير بالآية الشريفة - وإن كانت في أسلوب الشرط إلى ما فتح عليه صلى الله عليه وسلم من الحدائق التي لم يكن مثلها في بلاد العرب لما فتح الله عليه خيبر ووادي القرى ، وتصرف في ذلك بنفسه الشريفة وأكل منه وإلى ما فتح على أصحابه من بعده من بلاد فارس والروم ذات القصور والجنان التي لا مثل لها ولذلك عبر في الجنات بالماضي ، وفي القصور بالمضارع ، وأتيحوا كنوز كسرى بن هرمز ، فإن اللائق بمقام الملوك أن تكون إشاراتهم أوسع من عباراتهم ، فإذا ذكروا شيئاً ممكناً على سبيل الفرض كان من إرادتهم إيجاده ، ويحبون أن يكتفي منهم بالإيماء ، وأن يعتمد على تلويحهم أعظم مما يعتمد على تصريح غيرهم ، وأن يعد المفروض منهم بمنزلة المجزوم به من غيرهم ، والممكن في كلامهم كالواجب ، فما ظنك بملك الملوك القادر على كل شيء ! وهو قد صرف سبحانه الخطاب إلى أعلى الناس فهماً ، وأغزرهم علماً ، وقد أراه سبحانه ما يكون من ذلك من بعده في غزوة الخندق . روى البيهقي في دلائل النبوة عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خط الخندق ليحفره جعل على كل عشرة أربعين ذراعاً ، وكان سلمان الفارسي رضي الله عنه رجلاً قوياً ، فاختلف فيه المهاجرون والأنصار ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " سلمان منا أهل البيت " فخرجت لهم صخرة بيضاء مدورة ، قال عمرو : فكسرت حديدنا . وشقت علينا ، فقلنا : يا سلمان ارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبر هذه الصخرة ، فأخبره فأخذ صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان فضربها ثلاث ضربات صدع فيها في كل ضربة صدعاً ، وكسرها في الثالثة ، وبرقت مع كل ضربة برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم ، وكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كل برقة تكبيرة ، ثم أخذ بيد سلمان فرقي فسأله سلمان فقال للقوم : هل رأيتم ما يقول سلمان ؟ قالوا : نعم ! يا رسول الله ! بأبينا أنت وأمنا ! قد رأيناك تضرب فيخرج برق كالموج فرأيناك تكبر ، لانرى شيئاً غير ذلك ، فقال : أضاءت لي من البرقة الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب ، ومن الثانية القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب ، ومن الثالثة قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب ، وأخبرني ، جبريل عليه الصلاة والسلام أن أمتي ظاهرة عليها . فاستبشر المسلمون وقالوا : الحمد لله ! موعود صادق بأن وعدنا النصر بعد الحصر ، فطلعت الأحزاب فقال المسلمون { هذا ما وعدنا الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً } [ الأحزاب :22 ] "

وقال المنافقون في ذلك ما أشار إليه الله تعالى في القرآن ؛ ثم إن الله تعالى كذب المنافقين وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم ، فافتتح أصحابه رضي الله عنهم جميع ما ذكر ، وغلبوا على سائر مملكة الفرس واليمن وأكثر الروم ، وانتثلوا من كنوز كسرى وقيصر ما يفوت الحصر ، وقد كان صلى الله عليه وسلم تصرف في ذلك من ذلك الوقت تصرف الملوك ، لأن وعد الله لا خلف فيه ، بل غائبه أعظم من حاضره غيره ، وموعودة أوثق من ناجز سواه ، فأعطى صلى الله عليه وسلم تميم بن أوس الداري بلد الخليل عليه الصلاة والسلام من أرض الشام من مملكة الروم ، وأعطى خريم بن أوس - الذي يقال له : شويل - كرامة بنت عبد المسيح ابن بقيلة من سبي الحيرة من بلاد العراق من مملكة فارس ، وكل منهم قبض ما أعطاه عند الفتح كما يعرفه من طالع كتب الفتوح على أيام الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين ، فعندي أن هذا مما أشارت إليه الاية الشريفة ، نزه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عنه وفتحه على أصحابه ، تشريفاً لهم بإزالة أهل الشرك عنه ، وإنعاماً عليهم به تصديقاً لوعده ، وإكراماً لنبيه صلى الله عليه وسلم بنصر أوليائه وتكثير أمته ، وحضر ذلك كثير ممن كان من القائلين{ ما لهذا الرسول }[ الفرقان : 7 ] إلى آخره ، وقد كان قادراً على أن يقويه بجميع ذلك قبل موته ، ولكنه لم يفعل لأن ذلك أوضح في الأمر ، لأن نصره على خلاف ما ينصر به أهل الدنيا من غير جنود كثيرة ظاهرة ، ولا أموال وافرة ، ولا ملوك معينة قاهرة ، بل كانت الملوك عليه ، ثم صاروا كلهم أهون شيء عليه ، بيد أصحابه من بعده وأحبابه .