البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{تَبَارَكَ ٱلَّذِيٓ إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيۡرٗا مِّن ذَٰلِكَ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ وَيَجۡعَل لَّكَ قُصُورَۢا} (10)

ولما قال المشركون ما قالوا قيل : فيما يروى إن شئت أن نعطيك خزائن الدنيا ومفاتيحها ، ولم يعط ذلك أحد قبلك ولا يعطاه أحد بعدك وليس ذلك بناقصك في الآخرة شيئاً ، وإن شئت جمعناه لك في الآخرة فقال : يجمع لي ذلك في الآخرة فنزل { تبارك الذي } .

وعن ابن عباس عنه عليه السلام قال : عرض على جبريل عليه السلام بطحاء مكة ذهباً فقلت : بل شبعة وثلاث جوعات ، وذلك أكثر لذكري ومسألتي .

قال الزمخشري في { تبارك } أي تكاثر خيراً { الذي إن شاء } وهب لك في الدنيا { خيراً } مما قالوا وهو أن يجعل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور انتهى .

والإشارة بذلك الظاهر أنه إلى ما ذكره الكفار من الجنة والكنز في الدنيا قاله مجاهد .

ويبعد تأويل ابن عباس أنه إشارة إلى أكله الطعام ومشيه في الأسواق والظاهر أن هذا الجعل كان يكون في الدنيا لو شاءه الله .

وقيل : في الآخرة ودخلت إن على المشيئة تنبيهاً أنه لا ينال ذلك إلاّ برحمته وأنه معلق على محض مشيئته ليس لأحد من العباد على الله حق لا في الدنيا ولا في الآخرة .

والأول أبلغ في تبكيت الكفار والرد عليهم .

قال ابن عطية : ويرده قوله بعد ذلك { بل كذبوا بالساعة } انتهى .

ولا يرده لأن المعنى به متمكن وهو عطف على ما حكى عنهم يقول : بل أتى بأعجب من ذلك كله وهو تكذيبهم بالساعة .

وقرأ الجمهور { ويجعل } بالجزم قالوا عطفاً على موضع جعل لأن التقدير إن يشأ يجعل ويجوز أن يكون مرفوعاً أدغمت لامه في لام { لك } لكن ذلك لا يعرف إلاّ من مذهب أبي عمرو والذي قرأ بالجزم من السبعة نافع وحمزة والكسائي وأبو عمرو ، وليس من مذهب الثلاثة إدغام المثلين إذا تحرك أولهما إنما هو من مذهب أبي عمر وكما ذكرنا .

وقرأ مجاهد وابن عامر وابن كثير وحميد وأبو بكر ومحبوب عن أبي عمرو بالرفع .

قال ابن عطية : والاستئناف ووجهه العطف على المعنى في قوله { جعل } لأن جواب الشرط هو موضع استئناف .

ألا ترى أن الجمل من الابتداء والخبر قد تقع موقع جواب الشرط ؟ وقال الحوفي من رفع جعله مستأنفاً منقطعاً مما قبله انتهى .

وقال أبو البقاء وبالرفع على الاستئناف .

وقال الزمخشري : وقرىء { ويجعل } بالرفع عطفاً على { جعل } لأن الشرط إذا وقع ماضياً جاز في جوابه الجزم والرفع كقوله :

وإن أتاه خليل يوم مسألة *** يقول لا غائب مالي ولا حرم

انتهى .

وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري من أنه إذا كان فعل الشرط ماضياً جاز في جوابه الرفع ليس مذهب سيبويه ، إذ مذهب سيبويه أن الجواب محذوف وأن هذا المضارع المرفوع النية به التقديم ، ولكون الجواب محذوفاً لا يكون فعل الشرط إلاّ بصيغة الماضي .

وذهب الكوفيون والمبرد إلى أنه هو الجواب وأنه على حذف الفاء ، وذهب غير هؤلاء إلى أنه هو الجواب وليس على حذف الفاء ولا على التقديم ، ولما لم يظهر لأداة الشرط تأثير في فعل الشرط لكونه ماضي اللفظ ضعف عن العمل في فعل الجواب فلم تعمل فيه ، وبقي مرفوعاً وذهب الجمهور إلى أن هذا التركيب فصيح وأنه جائز في الكلام .

وقال بعض أصحابنا : هو ضرورة إذ لم يجىء إلاّ في الشعر وهو على إضمار الفاء والكلام على هذه المذاهب مذكور في علم النحو .

وقرأ عبيد الله بن موسى وطلحة بن سليمان { ويجعل } بالنصب على إضمار أن .

وقال أبو الفتح هي على جواب الشرط بالواو ، وهي قراءة ضعيفة انتهى .

ونظير هذه القراءات الثلاث قول النابغة :

فإن يهلك أبو قابوس يهلك *** ربيع الناس والشهر الحرام

ونأخذ بعده بذناب عيش *** أجب الظهر ليس له سنام

يروى بجرم نأخذ ورفعه ونصبه .