المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا كُنتُمۡ فِي ٱلۡفُلۡكِ وَجَرَيۡنَ بِهِم بِرِيحٖ طَيِّبَةٖ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتۡهَا رِيحٌ عَاصِفٞ وَجَآءَهُمُ ٱلۡمَوۡجُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ أُحِيطَ بِهِمۡ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنۡ أَنجَيۡتَنَا مِنۡ هَٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (22)

هذه الآية تتضمن تعديد النعمة فيما هي الحال بسبيله من ركوب البحر ، وركوبه وقت حسن الظن به للجهاد والحج متفق على جوازه ، وكذلك لضروة المعاش بالصيد فيه أو لتصرف التجر ، وأما ركوبه لطلب الغنى والاستكثار فمكروه عند الأكثر ، وغاية مبيحة أن يقول وتركه أحسن ، وأما ركوبه في ارتجاجه فمكروه ممنوع وفي الحديث : «من ركب البحر في ارتجاجه فقد برئت منه الذمة »{[6057]} وقال النبي صلى الله عليه وسلم «البحر لا أركبه أبداً »{[6058]} وقرأ جمهور القراء من السبعة وغيرهم «يسيركم » قال أبو علي وهو تضعيف مبالغة لا تضعيف تعدية ، لأن العرب تقول : سرت الرجل وسيّرته ومنه قول الهذلي : [ الطويل ]

فلا تجزعنْ من سُنة أنت سرتها*** فأول راض سنة من يسيرها{[6059]}

قال القاضي أبو محمد : وعلى هذا البيت اعتراض حتى لا يكون شاهداً في هذا . وهو أن يجعل الضمير كالظرف كما تقول سرت الطريق{[6060]} وهذه قراءة الجمهور من سير ، وكذلك هي في مصحف ابن مسعود وفي مصحف أبي شيخ{[6061]} وقال عوف بن أبي جميلة قد : كان يقرأ «ينشركم » فغيرها الحجاج بن يوسف «يسيركم » ، قال سفيان بن أبي الزعل : كانوا يقرأون «ينشركم » فنظروا في مصحف ابن عفان فوجدوها «يسيركم » فأول من كتبها كذلك الحجاج ، وقرأ ابن كثير في بعض طرقه «يسيركم » من أسار ، وقرأ ابن عامر وحده من السبعة «يَنْشُركم » بفتح الياء وضم الشين من النشر والبث ، وهي قراءة زيد بن ثابت والحسن وأبي العالية وأبي جعفر وعبيد الله بن جبير بن الفصيح وأبي عبد الرحمن وشيبة ، وروي عن الحسن أنه قرأ «يُنشِركم » بضم الياء وكسر الشين وقال : هي قراءة عبد الله ، قال أبو حاتم : أظنه غلط ، و { الفلك } جمع فلك وليس باسم واحد للجميع والفرد{[6062]} ولكنه فعل جمع على فُعل ، ومما يدل على ذلك قولهم فلكان في التثنية وقراءة أبي الدرداء وأم الدرداء «في الفلكي » على وزن فعليّ بياء نسب{[6063]} ، لقولهم أشقري ودواري{[6064]} في دور الدهر وكقول الصلتان{[6065]} :

انا الصلتاني . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[6066]}

وقوله { وجرين } علامة قليل العدد{[6067]} ، وقوله { بهم } خروج من الحضور إلى الغيبة ، وحسن ذلك لأن قولهم : { كنتم في الفلك } هو بالمعنى المعقول حتى إذا حصل بعضهم في السفن{[6068]} ، و «الريح » إذا أفردت فعرفها أن تستعمل في العذاب والمكروه ، لكنها لا يحسن في البحر أن تكونه إلا واحدة متصلة لا نشراً ، فقيدت المفردة «بالطيب » فخرجت عن ذلك العرف وبرع المعنى ، وقرأ ابن أبي عبلة «جاءتهم ريح عاصف » ، والعاصف الشديدة من الريح ، يقال : عصفت الريح{[6069]} ، وقوله { وظنوا } على بابه في الظن لكنه ظن غالب مفزع بحسب أنه في محذور ، وقوله { دعوا الله } أي نسوا الأصنام والشركاء وجردوا الدعاء لله ، وذكر الطبري في ذلك عن بعض العلماء حكاية قول العجم : هيا شراهيا ومعناه يا حي يا قيوم ، قال الطبري : جواب قوله { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين } : { جاءتها ريح عاصف } وجواب قوله : { وظنوا أنهم أحيط بهم } : { دعوا الله مخلصين }{[6070]} .


[6057]:- رواه الإمام أحمد في مسنده (5/79) عن أبي عمران الجوني قال: حدثني بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغزونا نحو فارس فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من بات فوق بيت ليس له إجار فوقع فمات فبرئت منه الذمة، ومن ركب البحر عند ارتجاجه فمات فقد برئت منه الذمة). وقد علّق على الحديث الشيخ ناصر الدين الألباني في كتابه: "الأحاديث الصحيحة" فقال: "أخرجه الإمام أحمد وهو صحيح متصل الإسناد وجهالة الصحابي لا تضر".
[6058]:- لم نقف على تخريج هذا الحديث، ولكن في الدرامي حديث آخر فيه: (لا يركب البحر إلا حاجّ أو معتمر أو غاز)، ومعنى هذا التحذير من ركوب البحر إلا في الطاعة ولأمر هام كالجهاد والحج، على أن الثابت في القرآن الكريم أن البحر نعمة من نعم الله، وفيه فوائد كثيرة، {وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون}. فإن صح الحديث فليس لنا أن نفهم منه إلا مجرد التحذير من ركوب البحر إلا عند الضرورة. وقوله تعالى هنا: {في البر والبحر} دلالة على جواز ركوب البحر، والله أعلم.
[6059]:- جاء في (اللسان-سير): "والسيرة: السنة، وقد سارت وسرتها، قال خالد بن زهير-وقال ابن بري: هو لخالد ابن أخت أبي ذؤيب- كان أبو ذئيب يرسله إلى محبوبته فأفسدها عليه فعاتبه أبو ذؤيب في أبيات كثيرة فقال له خالد: فإن التي فينا زعمت ومثلها لفيك، ولكني أراك تجورها تنقذتها من عند وهب بن جابر وأنت صفي النفس منه وخيرها فلا تجزعن من سنة أنت سرتها فأول راض سنّة من يسيرها. يقول: أنت جعلتها سائرة في الناس، وقال أبو عبيد: سار الشيء وسرته، فعمّ". وعلى هذا فالبيت لخالد بن زهير.
[6060]:- قال أبو حيان في "البحر" تعليقا على ذلك: "هذا لا يجوز عند الجمهور لأن (الطريق) عندهم ظرف مختص كالدار والمسجد فلا يصل إليه الفعل غير (دخلت) عند سيبويه، و(انطلقت وذهبت) عند الفراء إلا بواسطة (في) إلا في الضرورة، وإذا كان كذلك فضميره أحرى ألا يتعدى إليه الفعل.
[6061]:- أبو الشيخ الهُنائي، اسمه حيوان بحاء مهملة أو معجمة والياء ساكنة، روى عن عمر رضي الله عنه، ومعاوية، وروى عنه بيهس وقتادة، وثّقه ابن حبان، ومات بعد المائة. (خلاصة تذهيب الكمال 381). هذا وقد اضطربت الأصولة المخطوطة في كتابته.
[6062]:- يشير بذلك إلى رأي الفراء، ثم استدل على كلامه بأنه قد ثُني فقيل: فلكان، ذلك أن التثنية تدل على أنه قد حدث تغيير، إذ من المعروف أن مالا يُغيّر ليس بجمع بل هو مشترك، والخلاف أصلا بين ابن جني والفراء، فابن جني يقدّر التغيير ويعتبر سكون الجمع غير سكون الواحد، والفراء لا يقدر التغيير لأن السكون أمر عدمي فكيف نقدره؟ راجع حواشي البيضاوي.
[6063]:- نسب أبو الفتح هذه القراءة إلى أن الدرداء فقط، واسمها هجيمة بنت حيي الأوصابية الحميرية أم الدرداء الصغرى زوجة أبي الدرداء، أخذت القراءة عن زوجها، وأخذ عنها إبراهيم بن عبلة، وعطية بن قيس، ويونس بن هبيرة، توفيت بعد الثمانين. (طبقات القراء 2/ 354).
[6064]:- يقال للدهر: دوّاري، قال الليث: الدّوّاري الدّهر الدائر بالإنسان أحوالا، قال العجاج: والدهر بالإنسان دوّاريّ أفنى القرون وهو قعسريّ
[6065]:- الصّلتان بفتح الصاد المشددة واللام: اسم لثلاثة شعراء، (عبدي) نسبة إلى عبد القيس، واسمه قُثم وهو المراد هنا، و(ضبيّ) نسبة إلى ضب بن أدّ، و(فهمي) نسبة إلى فهم بن مالك. (راجع تاج العروس للزبيدي).
[6066]:- هذا جزء من بيت قاله في مطلع قصيدة نظمها حين جعلوا إليه الحكم بين الفرزدق وجرير، أيهما أشعر. (راجع الأمالي للقالي 2-142، 143)، والبيت بتمامه: أنا الصلتاني الذي قد علمتم متى ما يُحكّم فهو بالحق صادع
[6067]:- يقول: إن النون علامة جمع قليل العدد، وهو جمع المؤنث السالم، وهذا يتفق مع ما نبّه عليه الأشموني عند الكلام على جموع القلة من أن استعمالها في القلة على سبيل الحقيقة، واستعمالها في الكثرة على سبيل المجاز، وقد خالف في ذلك ابن خروف وتبعه الرضي وقالا: إن الجمعين لمطلق الجمع دون نظر إلى قلة أو كثرة.
[6068]:-قال أبو حيان في "البحر" تعقيبا على ذلك بعد أن نقله: "فكأنه قدّر مفردا غائبا يعاد الضمير عليه فيصير كقوله تعالى: {أو كظلمات في بحر لجيّ يغشاه} أي: أو كذي ظلمات، فعاد الضمير غائبا على اسم غائب فلا يكون من باب الالتفات".
[6069]:- ويقال أيضا: (أعصفت الريح)، فهي عاصف ومعصف ومعصفة، أي: شديدة، فالفعلان لازمان، قال الشاعر: حتى إذا أعصفت ريح مزعزعة فيها قطار ورعد صوته زجل
[6070]:- هذا مخالف للظاهر لأن قوله: (وظنوا) ظاهره العطف على جواب (إذا) لا أنه معطوف على (كنتم) لكنه محتمل، قاله في البحر.