الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا كُنتُمۡ فِي ٱلۡفُلۡكِ وَجَرَيۡنَ بِهِم بِرِيحٖ طَيِّبَةٖ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتۡهَا رِيحٌ عَاصِفٞ وَجَآءَهُمُ ٱلۡمَوۡجُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ أُحِيطَ بِهِمۡ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنۡ أَنجَيۡتَنَا مِنۡ هَٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (22)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{هو الذي يسيركم في البر} على ظهور الدواب والإبل، ويهديكم لمسالك الطرق والسبل، {و} يحملكم في {والبحر} في السفن في الماء، ويدلكم فيه بالنجوم،

{حتى إذا كنتم في الفلك} يعني في السفن، {وجرين بهم} يعني بأهلها، {بريح طيبة} يعني غير عاصف، ولا قاصف، ولا بطيئة،

{وفرحوا بها جاءتها}، يعني السفينة، {ريح عاصف} قاصف، يعني غير لين، يعني ريحا شديدة،

{وجاءهم الموج من كل مكان} يعني من بين أيديهم، ومن خلفهم، ومن فوقهم، {وظنوا} يعني وأيقنوا {أنهم أحيط بهم} يعني أنهم مهلكون، يعني مغرقون، {دعوا الله مخلصين له الدين} وضلت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله، فذلك قوله: {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه} [الإسراء:67]، {لئن أنجيتنا من هذه} [هذه] المرة

{لنكونن من الشاكرين} لا ندعو معك غيرك.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: الله الذي يسيركم أيها الناس في البرّ على الظهر وفي البحر في الفلك "حتى إذَا كُنْتُمْ في الفُلْك "وهي السفن، "وَجَرَيْنَ بِهِمْ" يعني: وجرت الفلك بالناس، "بِرِيحٍ طَيّبَةٍ" في البحر، "وَفَرِحُوا بِها" يعني: وفرح ركبان الفلك بالريح الطيبة التي يسيرون بها. والهاء في قوله: «بها» عائدة على الريح الطيبة، "جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ" يقول: جاءت الفلك ريح عاصف، وهي الشديدة، والعرب تقول: ريح عاصف وعاصفة...

"وَجاءَهُمْ المَوْجُ مِنْ كُلّ مَكانٍ" يقول تعالى ذكره: وجاء ركبان السفينة الموج من كلّ مكان. "وَظَنّوا أنّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ" يقول: وظنوا أن الهلاك قد أحاط بهم وأحدق. "دَعَوُا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ" يقول: أخلصوا الدعاء لله هنالك دون أوثانهم وآلهتهم، وكان مفزعهم حينئذ إلى الله دونها...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي سخر لكم البر والبحر، وهما مكان الخوف والهلاك؛ أي حفظكم فيهما حتى تقضوا فيهما حوائجكم، وليس في وسع الخلق حفظ البراري والبحار عما فيهما من الأهوال، فتولى الله تعالى بفضله حفظ السائرين فيهما حتى يقضوا فيهما حوائجهم، وهو كقوله: (وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها) [النحل: 14] إلى آخر ما ذكر من أنواع المنافع. فلولا أن الله سخر لهم ذلك، وحفظهم فيه، وإلا لم يكن في وسعهم القيام بذلك وحفظ أنفسهم فيه من الأهوال التي فيه، يذكرهم نعمته ومنته التي أنعمها ليوجهوا شكر نعمه إليه... ويشبه أن يكون قوله: (يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) لم يرد به البر والبحر نفسيهما، ولكنه أراد تذكير نعمه عليهم في كل حال وكل وقت ليشكروا له في كل حال، وهو كقوله: (ظهر الفساد في البر والبحر) [الروم: 41] لم يرد به البر والبحر نفسيهما، ولكن أراد المكان الذي فيه المياه والمكان الذي لا مياه فيه، أي ظهر الفساد في الأماكن كلها. فعلى ذلك الأول يذكرهم نعمه التي أنعمها عليهم في الأماكن كلها والأحوال جميعا، والله أعلم...

(وظنوا أنهم أحيط بهم) قيل: أيقنوا أنهم مهلكون، ولكن الإيقان بالشيء الذي يصيب به في حادث الأوقات إنما يكون بالخبر لأنه لا ندري لعل الله يصرف ذلك عنهم، فلا يقع الإيقان، ولكن جعل غالب الظن فيه وفي كثير من الأشياء كالإيقان به...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما قال: {وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا} كان هذا الكلام كلاما كليا لا ينكشف معناه تمام الانكشاف إلا بذكر مثال كامل، فذكر الله تعالى لنقل الإنسان من الضر الشديد إلى الرحمة مثالا، ولمكر الإنسان مثالا، حتى تكون هذه الآية كالمفسرة للآية التي قبلها، وذلك لأن المعنى الكلي لا يصل إلى أفهام السامعين إلا بذكر مثال جلي واضح يكشف عن حقيقة ذلك المعنى الكلي. واعلم أن الإنسان إذا ركب السفينة ووجد الريح الطيبة الموافقة للمقصود، حصل له الفرح التام والمسرة القوية، ثم قد تظهر علامات الهلاك دفعة واحدة:

فأولها: أن تجيئهم الرياح العاصفة الشديدة.

وثانيها: أن تأتيهم الأمواج العظيمة من كل جانب.

وثالثها: أن يغلب على ظنونهم أن الهلاك واقع، وأن النجاة ليست متوقعة، ولا شك أن الانتقال من تلك الأحوال الطيبة الموافقة إلى هذه الأحوال القاهرة الشديدة يوجب الخوف العظيم، والرعب الشديد، وأيضا مشاهدة هذه الأحوال والأهوال في البحر مختصة بإيجاب مزيد الرعب، والخوف ثم إن الإنسان في هذه الحالة لا يطمع إلا في فضل الله ورحمته، ويصير منقطع الطمع عن جميع الخلق، ويصير بقلبه وروحه وجميع أجزائه متضرعا إلى الله تعالى، ثم إذا نجاه الله تعالى من هذه البلية العظيمة، ونقله من هذه المضرة القوية إلى الخلاص والنجاة، ففي الحال ينسى تلك النعمة ويرجع إلى ما ألفه واعتاده من العقائد الباطلة والأخلاق الذميمة، فظهر أنه لا يمكن تقرير ذلك المعنى الكلي المذكور في الآية المتقدمة بمثال أحسن وأكمل من المثال المذكور في هذه الآية.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ثم أخذ سبحانه يبين ما يتضح به أسرعية مكره في مثال دال على ما في الآية قبلها من نقله سبحانه لعباده من الضر إلى النعمة ومن سرعة تقلبهم فقال: {هو} أي لا غيره {الذي يسيركم} أي في كل وقت تسيرون فيه سيراً عظيماً لا تقدرون على الانفكاك عنه {في البر والبحر} أي يسبب لكم أسباباً توجب سيركم فيهما ويقدركم على ذلك ويهديكم من بين سائر الحيوانات إلى ما فيه من أصناف المنافع مع قدرته على إصابتكم في البر بالخسف وما بالخسف وما دونه وفي البحر بالغرق وما أشبهه.

ولما كان العطب بأحوال البحر أظهر مع أن السير فيه من أكبر الآيات وأوضح البينات، بينه معرضاً عن ذكر البر فقال: {حتى إذا كنتم} أي كوناً لا براح لكم منه {في الفلك} أي السفن، يكون واحداً وجمعاً؛ وأعرض عنهم بعد الإقبال لما سيأتي فقال: {وجرين} أي الفلك؛ {بهم} ولما ذكر جريها وهم فيها، ذكر سببه فقال: {بريح طيبة} ثم أوضح لهم عدم علمهم بالعواقب بقوله: {وفرحوا بها} أي بتلك الريح وبالفلك الجارية بها {جاءتها ريح عاصف} فأزعجت سفنهم وساءتهم {وجاءهم الموج} أي المعروف لكل أحد بالرؤية أو الوصف {من كل مكان} أي يعتاد الإتيان منه فأرجف قلوبهم {وظنوا أنهم} ولما كان المخوف الهلاك، لا كونه من معين، بني للمفعول ما هو كناية عنه لأن العدو إذا أحاط بعدوه أيقن بالهلاك فقال: {أحيط بهم}.

ولما كان ما تقدم من حالهم الغريبة التي تجف لها القلوب وتضعف عندها القوى -مقتضياً لأن يسأل عما يكون منهم عند ذلك، أتى المقال على مقتضى هذا السؤال مخبراً عن تركهم العناد وإخلاصهم الدال على جزعهم عند سطواته وانحلال عزائمهم في مشاهدة ضرباته، وعبارة الرماني: اتصال دعوى الأجوبة، كأنه قيل: لما ظنوا أنهم أحيط بهم {دعوا الله} أي الذي له صفات الكمال بالرغبة إليه في الخلاص والعبادة له.

بالإخلاص {مخلصين} أي عن كل شرك {له الدين} أي التوحيد والتصديق بالظاهر والباطن، وقد تضمنت الآية البيان عما توجبه بديهة العقل من الفزع عند الشدة إلى واهب السلامة ومسبغ النعمة في كشف تلك البلية؛ ثم أتبع سبحانه ذلك حكاية حالهم في وعدهم الشكر على النجاة ثم كذبهم في ذلك مع ادعائهم أنهم أطهر الناس ذيولاً عن الكذب وأشدهم استقباحاً له وأبعد الناس من كفران الإحسان، فقال تعالى حاكياً قولهم الذي دلُّوا بتأكيدهم له أنهم قالوه بغاية الرغبة نافين ما يظن بهم من الرجوع إلى ما كانوا فيه قبل تلك الحال من الكفر: {لئن أنجيتنا} أي أيها الملك الذي لا سلطان لغيره {من هذه} أي الفادحة {لنكونن} أي كوناً لا ننفك عنه {من الشاكرين} أي المديمين لشكرك العريقين في الاتصاف به.

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

... فالآية دالة على أن المشركين لا يدعون غيره تعالى في تلك الحال، وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير وخطب جسيم في بر أو بحر دعوا من لا يضر ولا ينفع ولا يرى ولا يسمع فمنهم من يدعو الخضر والياس ومنهم من ينادي أبا الخميس والعباس ومنهم من يستغيث بأحد الأئمة ومنهم من يضرع إلى شيخ من مشايخ الأمة ولا ترى فيهم أحداً يخص مولاه بتضرعه ودعاه ولا يكاد يمر له ببال أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال فبالله تعالى عليك قل لي أي الفريقين من هذه الحيثية أهدى سبيلاً وأي الداعيين أقوم قيلاً؟ وإلى الله تعالى المشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة وتلاطمت أمواج الضلالة وخرقت سفينة الشريعة واتخذت الاستغاثة بغير الله تعالى للنجاة ذريعة وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف وحالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

ثم ضرب الله تعالى مثلا لهؤلاء الناس- هو من أبلغ أمثال القرآن- فقال: {هُو الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ والْبَحْرِ} السير المضي والانتقال من مكان إلى آخر، والتسيير جعل الشيء أو الشخص يسير بتسخيره، أو إعطائه ما يسير عليه من دابة أو مركبة أو سفينة، أي إن الله تعالى هو الذي يسيركم أيها الناس في البر والبحر بما وهبكم من القدرة على السير، وما سخر لكم من الإبل والدواب والفلك التي تجري في البحر (وزادنا في هذا العصر القطارات والسيارات البخارية والطيارات التي تسير في الجواء).

{حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ} أي حتى إذا كنتم في إحدى حوادث سيركم البحري راكبين في الفلك التي سخرها لكم، والفلك بالضم اسم للسفينة المفردة ولجمعها وهو السفن والسفائن (مفرده وجمعه واحد)، والمراد به هنا الجمع إذ قال: {وجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} أي وجرت هذه الفلك بمن فيها بسبب ريح طيبة، أي رخاء مواتية لهم في جهة سيرهم، والطيب من كل شيء ما يوافق الغرض والمنفعة، يقال: رزق طيب، ونفس طيبة، وبلدة طيبة، وشجرة طيبة.

وفي قوله: {بهم} التفات عن الخطاب إلى الغيبة، فائدته -كما قال الزمخشري- المبالغة، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها، ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح لها، أي لما وصفهم به بعد ذلك من كفر النعمة.

{وفَرِحُواْ بِهَا} لما يكون لهم في هذه الحالة من الراحة والانتعاش والأمن من دوار البحر، والتمتع بمنظرها العليل.

{جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} أي جاءت الفلك أو الريح الطيبة، أي لاقتها ريح شديدة قوية. يقال: عصفت الريح فهي عاصف وعاصفة، أي تعصف الأشياء وتكسرها فتكون كعصف النبات وهو الحطام المتكسرة منه.

{وجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ} أي واضطرب البحر وتموج سطحه كله، فتلقاهم موجه من جميع الجوانب والنواحي بتأثير الريح، فهي أنواع: منها ما يهب من ناحية واحدة كالرياح الأربع، ومنها النكباء، وهي المنحرفة التي تقع بين ريحين مختلفتين، ومنها المتناوحة التي تهب من جميع النواحي، ومنها الإعصار وهي التي تدور فتكون عمودية فيرتفع بها ما تدور عليه من التراب والحصى من الأرض، والماء من سطح البحر بما عليه وما فيه من سمك وغيره، ثم يلقي في مكان آخر.

{وظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أي اعتقدوا اعتقادا راجحا أنهم هلكوا بإحاطة الموج من كل جانب، كما يحيط العدو المحارب بعدوه إذ يطوقه بما يقطع عليه سبل النجاة، ذلك بأن فعل العاصف يهبط بهم في لجج البحر تارة، كأنهم سقطوا في هاوية سحيقة، ولا يلبث أن يثب بهم إلى أعلى غوارب الموج، كأنهم في قنة جبل شاهق أصابه رجفة زلزلة شديدة.

{دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} هذا جواب لما تضمنه قوله تعالى: {حتى إذا كنتم في الفلك} الخ، أي حتى إذا ما نزل بهم كل ذلك من نذر العذاب، وتقطعت بهم دون النجاة جميع الأسباب، دعوا الله في كشفه عنهم مخلصين له الدين، لا يتوجهون معه إلى ولي ولا شفيع، ولا ند ولا شريك، ممن كانوا يتوسلون بهم إليه في حال الرخاء عازمين على طاعته قائلين:

{لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أي نقسم لك يا ربنا لئن أنجيتنا من هذه التهلكة أو العاصفة لنكونن من جماعة المؤمنين الشاكرين لنعمائك لا نكفر منها شيئا، ولا نشرك بك أحدا، ولا ندعو من دونك وليا ولا شفيعا، ولا نتوجه في تفريج كروبنا وقضاء حاجنا إلى وثن ولا صنم، ولا إلى ولي ولا نبي ولا ملك، وفي هذه الآية وأمثالها بيان صريح لكون المشركين كانوا لا يدعون في أوقات الشدائد وتقطع الأسباب بهم إلا الله ربهم، ولكن من لا يحصى عددهم من مسلمي هذا الزمان –بزعمهم- لا يدعون عند أشد الضيق إلا معبوديهم من الميتين كالبدوي والرفاعي والدسوقي والجيلالي والمتبولي وأبي سريع وغيرهم ممن لا يحصى عددهم، وتجد من حملة العمائم الأزهريين وغيرهم -ولاسيما سدنة المشاهد المعبودة الذين يتمتعون بأوقاتهم ونذورها- من يغريهم بشركهم، ويتأوله لهم، بتسميته بغير اسمه في اللغة العربية كالتوسل وغيره.

وقد سمعت من كثير من الناس في مصر وسورية حكاية يتناقلونها -ربما تكررت في القطرين لتشابه أهلهما، وأكثر مسلمي هذا العصر في خرافتهم- وملخصها أن جماعة ركبوا البحر فهاج بهم حتى أشرفوا على الغرق فصاروا يستغيثون معتقديهم بعضهم بقول: يا سيد يا بدوي، وبعضهم يصيح: يا رفاعي وآخر يهتف: يا عبد القادر يا جيلاني... الخ وكان فيهم رجل موحد ضاق بهم ذرعا، فقال: يا رب أغرق أغرق، ما بقي أحد يعرفك.

وفي هذا المعنى قال السيد حسن صديق الهندي في الكلام على الآية من تفسيره فتح الرحمن:

" وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد، وأن المضطر يجاب دعاؤه وإن كان كافرا، وفي هذه الآية بيان أن هؤلاء المشركين كانوا لا يلتفتون إلى أصنامهم في هذه الحالة وما شابهها، فيا عجبا لما حدث في الإسلام من طوائف يعتقدون في الأموات، فإذا عرضت لهم في البحر مثل هذه الحالة دعوا الأموات ولم يخلصوا الدعاء لله كما فعله المشركون- كما تواتر ذلك إلينا تواترا يحصل به القطع- فانظر هداك الله ما فعلت هذه الاعتقادات الشيطانية؟ وأين وصل بها أهلها؟ وإلى أين رمى بهم الشيطان؟ وكيف اقتادهم وتسلط عليهم حتى انقادوا له انقيادا ما كان يطمح في مثله ولا في بعضه من عباد الأصنام، فإنا لله وإنا إليه راجعون"...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ثم ذلك المشهد الحي، الذي يعرض كأنه يقع، وتشهده العيون، وتتابعه المشاعر، وتخفق معه القلوب. يبدأ بتقرير القدرة المسيطرة المهيمنة على الحركة والسكون: (هو الذي يسيركم في البر والبحر).. ذلك أن السورة كلها معرض لتقرير هذه القدرة التي تسيطر على أقدار الكون كله بلا شريك. ثم ها نحن أولاء أمام المشهد القريب: (حتى إذا كنتم في الفلك).. وها هي ذي الفلك تتحرك رخاء.. (وجرين بهم بريح طيبة).. وهذه مشاعر أهل الفلك ندركها: (وفرحوا بها).. وفي هذا الرخاء الآمن، وفي هذا السرور الشامل، تقع المفاجأة، فتأخذ الغارين الآمنين الفرحين: (جاءتها ريح عاصف). يا للهول! (وجاءهم الموج من كل مكان).. وتناوحت الفلك واضطربت بمن فيها، ولاطمها الموج وشالها وحطها، ودار بها كالريشة الضائعة في الخضم.. وهؤلاء أهلها في فزع يظنون أن لا مناص: (وظنوا أنهم أحيط بهم).. فلا مجال للنجاة.. عندئذ فقط، وفي وسط هذا الهول المتلاطم، تتعرى فطرتهم مما ألم بها من أوشاب، وتنفض قلوبهم ما ران عليها من تصورات، وتنبض الفطرة الأصيلة السليمة بالتوحيد وإخلاص الدينونة لله دون سواه: (دعوا الله مخلصين له الدين: لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين)!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

...وإسناد التسْيير إلى الله تعالى باعتبار أنه سببه لأنه خالق إلهام التفكير وقوى الحركة العقلية والجسدية، فالإسناد مجاز عقلي، فالقصر المفاد من جملة: {هو الذي يسيركم} قصر ادعائي. والكلام مستعمل في الامتنان والتعريض بإخلالهم بواجب الشكر.

{حتى} ابتدائية، وهي غاية للتسيير في البحار خاصة. وإنما كانت غاية باعتبار ما عطف على مدخولها من قوله: {دَعَوا الله} إلى قوله {بغير الحق}، والمغيَّا هو ما في قوله {يسيركم} من المنة المؤذنة بأنه تسيير رفق ملائم للناس، فكان ما بعد (حتى) ومعطوفاتها نهايةَ ذلك الرفق، لأن تلك الحالة التي بعد (حتى) ينتهي عندها السير المنعَم به ويدخلون في حالة البأساء والضراء، وهذا النظم نسج بديع في أفانين الكلام.

ومن بديع الأسلوب في الآية أنها لما كانت بصدد ذكر النعمة جاءت بضمائر الخطاب الصالحة لجميع السامعين، فلما تهيأت للانتقال إلى ذكر الضراء وقع الانتقال من ضمائر الخطاب إلى ضمير الغيبة لتلوين الأسلوب بما يخلصه إلى الإفضاء إلى ما يخص المشركين فقال: {وجَرين بهم} على طريقة الالتفات، أي وجرين بكم. وهكذا أجريت الضمائر جامعة للفريقين إلى أن قال: {فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق} فإن هذا ليس من شيم المؤمنين فتمحض ضمير الغيبة هذا للمشركين، فقد أخرج من الخبر مَن عدا الذين يبغون في الأرض بغير الحق تعويلاً على القرينة لأن الذين يبغون في الأرض بغير الحق لا يشمل المسلمين.

وقد عدت هذه الآية من أمثلة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في ضمائر الغيبة كلها تبعاً « للكشاف» بناء على جعل ضمائر الخطاب للمشركين وجعل ضمائر الغيبة لهم أيضاً، وما نحوتُه أنا أليق.

...وجملة: {لئن أنجيتنا} بيان لجملة {دَعوا} لأن مضمونها هو الدعاء. والإشارة ب {هذه} إلى حالة حاضرة لهم، وهي حالة إشرافهم على الغرق، فالمشار إليه هو الحالة المشاهدة لهم.

وقد أكد وعدهم بالشكر بثلاث مؤكدات: لامِ توطئة القسم، ونون التوكيد، والتعبير بصيغة {من الشاكرين} دون لنكونن شاكرين، لما يفيده من كونهم من هذه الزمرة التي ديدنها الشكر، كما تقدم بيان خصوصية مثل هذا التركيب عند قوله تعالى: {قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين} في سورة [الأنعام: 56].