التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا كُنتُمۡ فِي ٱلۡفُلۡكِ وَجَرَيۡنَ بِهِم بِرِيحٖ طَيِّبَةٖ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتۡهَا رِيحٌ عَاصِفٞ وَجَآءَهُمُ ٱلۡمَوۡجُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ أُحِيطَ بِهِمۡ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنۡ أَنجَيۡتَنَا مِنۡ هَٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (22)

قوله تعالى : { هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون } .

ذلك تعديد من الله لنعمه على العباد . ونعم الله كثيرة لا يحصرها العد . وهي نعم مبثوثة في كل الأحوال والآفاق والأزمان ، وقد أسبغها الله على الإنسان ليجد فيها عيشه المريح ؛ فلا يتعسر ، ولا يستضنك أو يشقى .

ومن جملة هاتيك النعم الكثيرة : امتطاء الدواب التي ذللها الله للركوب في البر سواء في ذلك الدواب من الأنعام فيما مضى ، أو الحوامل المصنوعة التي تسير بقوة الآلة أو البخار أو النار في الزمن الراهن . سواء منها المراكب التي تسير في البراري والصحاري أو التي تجوب أجواز الفضاء بسرعتها الفائقة المذهلة . أو التي نمخر عباب البحار الهوادر من السفائن ونحوها .

وذلك كله مقتضى قوله تعالى : { هو الذي يسيركم في البر والبحر } أي يحملكم راكبين على ظهور الحوامل في البر ، أو على الفلك ( السفن ) في البحر بعد أن ذلل الله لعملية الركوب السبب في ذلك وهو خاصية الطفو على سطح الماء لتسير عليه السفن المشحونة فلا تغرق . وهي خاصية جعلها الله في الماء وحده دون غيره من المائعات ، تذليلا لعملية الركوب ، وتمكينا للإنسان من العيش بأمن وراحة وكلاءة .

قوله : { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءتهم الموج من كل مكان } { حتى } لانتهاء الغاية . و { الفلك } يعني السفينة . يستوي في ذلك الواحد والجمع ، وهو يقع على المذكر والمؤنث { وجرين بهم } رجع من الخطاب إلى الغيبة للمبالغة . والمعنى : أن السفينة تجري بالراكبين عليها { بريح طيبة } أي لينة الهبوب ، فهي ليست شديدة ولا بطيئة { وفرحوا بها } أي فرح الراكبون على ظهر الفلك وهي تسير بهم في رفق ولين . ثم بعد ذلك { جاءتها ريح عاصف } أي تلت الريح اللينة ريح أخرى شديدة تعصف بالسفينة فتثير الخوف لفرط هبوبها الشديد { وجاءهم الموج من كل مكان } الموج ما ارتفع من الماء فوق سطح البحر ؛ أي جاء الموج السفينة هادرا متلاطما وهو يرطمها بغلظة واشتداد { وظنوا أنهم أحيط بهم } أي أيقنوا أنهم هالكون لا محالة ، وأنهم صائرون على الغرق والموت . وذلك بعد أن أخذ منهم الخوف واليأس كل مأخذ . وفي مثل هذه الساعة المخوفة العجفاء تحيط بمن في السفينة أسباب الرعب واليأس والزلزلة ، فلم يلبثوا ؛ إذا ذاك إلا أن يجأروا إلى الله مسغيثين به مستمدين منه النجاة والخلاص وهو قوله : { دعوا الله مخلصين له الدين } دعوا الله وحده وتركوا ما كانوا يعبدون من أصنام وأوثان فلم يدعوها ولم يرجوها . وذلك لما شافوا على الهلاك وأيقنوا أنهم مغرقون ؛ فلم يجدوا عن الرجوع إلى الله وحده مناصا ، ويستفاد من ذلك أن الإنسان مجبول على الرجوع إلى الله كلما أحاطت به الشدائد أو أحدقت به الأهوال . وفي مثل هذه الساعة التي تروعه فيها المخاطر يتحرر من ربقة العبودية لغير الله ؛ فيستسلم لله وحده ، ويتوجه إليه بالدعاء الخالص طلبا للسلامة والنجاة . ويستفاد كذلك أن الإنسان مفطور على الإيمان بالله وحده دون سواه من الشركاء والأنداد . هكذا خلق الإنسان ؛ فقد جيء به ليكون على فطرة التوحيد الخالص والإيمان بالله وحده دون غيره من الآلهة المختلقة والمصطنعة . وما كان الإنسان إلا ليظل على هذا السمت من صدق الإيمان وسلامة الفطرة وتمام التوجه إلى الله وحده لولا الشياطين الماكرة الخبيثة التي تكيد للإنسان كيدا والتي تمكر به في الليل والنهار وفي غاية الخداع والتضليل والخيانة والغش لتجتاله عن دين الحق إلى ملل الضلال والكفر والخطيئة على اختلاف ضروبها وألوانها . وقد اجتالته فعلا ! !

قوله : { لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين } للام موطئة للقسم ، والإشارة في قوله : { هذه } عائدة إلى الورطة التي وقعوا فيها ، وهي مشارفة الهلاك في البحر بعد أن عصفت بهم الأمواج حتى كادت السفينة تتبدد ؛ ليكونوا من الغارقين . فأقسموا لله في هذه الحال المرعبة الموئسة : لئن أنجاهم مما هم فيه من مشارفة الموت { لنكونن من الشاكرين } للام جواب القسم ؛ أي لنكونن ممن يشكر نعمة الله فلا ننساها البتة .