تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا كُنتُمۡ فِي ٱلۡفُلۡكِ وَجَرَيۡنَ بِهِم بِرِيحٖ طَيِّبَةٖ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتۡهَا رِيحٌ عَاصِفٞ وَجَآءَهُمُ ٱلۡمَوۡجُ مِن كُلِّ مَكَانٖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ أُحِيطَ بِهِمۡ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ لَئِنۡ أَنجَيۡتَنَا مِنۡ هَٰذِهِۦ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (22)

وقوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) اختلف فيه ؛ قال بعضهم : قوله ( هو الذي يسيركم ) أي هو الذي سخر لكم ما به[ ساقطة من الأصل وم ] تسيرون في البر والبحر ، وهو الدواب والسفن التي تقطع بها البراري والبحار ، وهو كقوله ( لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ )[ الزخرف : 13 ]

وقيل : ( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ )[ أي سخر لكم البر والبحر ، وهما ][ في الأصل : وهو ، وفي م : أي سخر لكم البر والبحر وهو ] مكان الخوف والهلاك ؛ أي حفظكم [ فيهما حتى تقضوا ][ في الأصل وم : فيها حتى قضيتم ] فيهما حوائجكم ، وليس في وسع الخلق حفظ البراري والبحار عما فيهما من الأهوال ، فتولى الله تعالى بفضله حفظ السائرين [ فيهما حتى يقضوا ][ في الأصل وم : قضوا ] فيهما حوائجهم ، وهو كقوله : ( وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها )[ النحل : 14 ] إلى آخر ما ذكر [ من ][ ساقطة من الأصل وم ] أنواع المنافع .

فلولا أن الله سخر لهم ذلك ، وحفظهم فيه ، وإلا لم يكن في وسعهم[ في الأصل وم : وسعه ] القيام بذلك وحفظ أنفسهم فيه من الأهوال التي فيه يذكرهم نعمة ومنته التي أنعمها ليوجهوا شكر نعمه إليه .

ثم قوله : ( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) يحتمل : يخلق ، وينشئ سيركم في البر والبحر ، وهو كقوله : ( وقدرنا فيها السير سيروا فها ليالي )الآية [ سبإ : 18 ] والتقدير هو التخليق ، والمقدر المخلوق .

ففيه دلالة خلق أفعال الخلق لأن السير هو فعل الخلق ، أضافه إلى نفسه ، دل أنه منشئ فعلهم ، والله أعلم .

ويشبه أن يكون قوله : ( يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) لم يرد به البر والبحر نفسيهما[ في الأصل وم : نفسه ] ، ولكنه أراد تذكير نعمه عليهم في كل حال وكل وقت ليشكروا له في كل حال ، وهو كقوله : ( ظهر الفساد في البر والبحر )[ الروم : 41 ] لم يرد به البر والبحر نفسيهما[ في الأصل وم : أنفسهما ] ، ولكن أراد المكان الذي فيه المياه والمكان الذي لا مياه فيه ، أي ظهر الفساد في الأماكن كلها . فعلى ذلك الأول يذكرهم نعمه التي أنعمها عليهم في الأماكن كلها والأحوال جميعا ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ( حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ) أي تجري بهم السفن بريح طيبة ؛ يخبر أن السفن ليست تجري في البحار بجريان الماء لأنها ماءها راكد في الظاهر ، لكن الريح هي التي تجري ، وتسيرها ، وكذلك الأمواج التي تكون فيها ليست لشدة جريان الماء ، ولكن الريح هي التي تهيج [ الأمواج ، وتزعجها لا نفس الماء ( وفرحوا بها ) قيل ( وفرحوا بها ) وسروا .

وقوله تعالى : ( جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمْ الْمَوْجُ ) ][ ساقطة من م ] أخبر أن الريح [ منها ما ][ في الأصل وم : إما ] هي طيبة تجري[ أدرج قبلها في الأصل وم : هي ] بها السفن ، ومنها ما هي عاصفة قاصفة ، تكسر ، وتغرق السفن ، وتهلك أهلها ، ليعلم أن الأشياء تصلح مرة ، وتفسد أخرى لا لأنفسها ، ولكن لحفظ الحدود فيها ، وكذلك الماء مرة يصلح ، ومرة يفسد ؛ وذلك إذا حفظ في الحد صلح[ في الأصل وم : أصلح ] ، وإن لم يحفظ فسد[ في الأصل وم : أفسده ] ، وإلا لا يحتمل الشيء الواحد لنفسه [ أن ][ ساقطة من الأصل وم ] يصلح مرة ، ويفسد تارة ولكن لحفظ الحدود فيه ، والله أعلم .

وقوله تعالى : ( وظنوا أنهم أحيط بهم ) قيل : أيقنوا أنهم مهلكون ، ولكن الإيقان بالشيء الذي يصيب به في حادث الأوقات إنما يكون بالخبر لأنه لا ندري لعل الله يصرف ذلك عنهم ، فلا يقع الإيقان ، ولكن جعل غالب الظن فيه وفي كثير من الأشياء كالإيقان به . ألا ترى أن الله أباح الميتة في حال الضرورة لغالب الظن ؛ إذ قد يجوز ألا يهلك بذلك ؟

وكذا ما أبيح للمكره بالقتل أن يجري كلمة الكفر على لسانه لغالب الظن ؟ وإلا ليس يعلم بالإحاطة أنه يقتله لا محالة . لكن جعل لغالب الظن في بعض المواضع حكم اليقين والإحاطة . فعلى ذلك قولهم : أيقنوا أنهم أحيط بهم لغالب الظن .

وقوله تعالى : ( دعوا الله مخلصين له الدين ) إنهم لما أيسوا من الأصنام التي عبدوها في دفع ما حل بهم عنهم فزعوا إلى الله ، وأخلصوا الدعاء له ، وقالوا : ( لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ) .