المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{فَبَدَأَ بِأَوۡعِيَتِهِمۡ قَبۡلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ ٱسۡتَخۡرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِۚ كَذَٰلِكَ كِدۡنَا لِيُوسُفَۖ مَا كَانَ لِيَأۡخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلۡمَلِكِ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ نَرۡفَعُ دَرَجَٰتٖ مَّن نَّشَآءُۗ وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ} (76)

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ( 76 )

بدؤه - أيضاً - من أوعيتهم تمكين للحيلة وإبعاد لظهور أنها حيلة .

وقرأ جمهور الناس «وِعاء » بكسر الواو ، وقرأ الحسن «وُعاء » بضمها ، وقرأ ابن جبير «أعاء » بهمزة بدل الواو ، وذلك شائع في الواو المكسورة ، وهو أكثر في المضمومة ، وقد جاء من المفتوحة : أحد في وحد .

وأضاف الله تعالى إلى ضميره لما أخرج القدر الذي أباح به ليوسف أخذ أخيه مخرج ما هو في اعتياد الناس كيد ، وقال السدي والضحاك : { كدنا } معناه : صنعنا .

و { دين الملك } فسره ابن عباس بسلطانه ، وفسره قتادة بالقضاء والحكم .

قال القاضي أبو محمد : وهذا متقارب ، والاستثناء في هذه الآية حكاية حال ، التقدير : إلا ان شاء الله ما وقع من هذه الحيلة ؛ ويحتمل أن يقدر أنه تسنن لما قرر النفي .

وقرأ الجمهور «نرفع » على ضمير المعظم و «نشاء » كذلك ، وقرأ الحسن وعيسى ويعقوب بالياء ، أي الله تعالى : وقرأ عمرو ونافع وأهل المدينة «درجاتِ من » بإضافة الدرجات إلى { من } ، وقرأ عاصم وابن محيصن «درجاتٍ من » بتنوين الدرجات ، وقرأ الجمهور ، «وفوق كل ذي علم » . وقرأ ابن مسعود «وفوق كل ذي عالم » والمعنى أن البشر في العلم درجات ، فكل عالم فلا بد من أعلم منه ، فإما من البشر وإما الله عز وجل . وأما على قراءة ابن مسعود فقيل : { ذي } زائدة ، وقيل : «عالم » مصدر كالباطل{[6759]} .

وروي أن المفتش كان إذا فرغ من رحل رجل فلم يجد فيه شيئاً استغفر الله عز وجل تائباً من فعله ذلك ، وظاهر كلام قتادة وغيره ، أن المستغفر كان يوسف لأنه كان يفتشهم يعلم أين الصواع ، حتى فرغ منهم وانتهى إلى رحل بنيامين فقال : ما أظن هذا الفتى رضي بهذا ، ولا أخذ شيئاً ، فقال له إخوته ، والله لا تبرح حتى تفتشه فهو أطيب لنفسك ونفوسنا ، ففتش فأخرج السقاية - وهذا التفتيش من يوسف يقتضي أن المؤذن إنما سرقه برأيه{[6760]} ، فإنما يقال جميع ذلك كان بأمر الله تعالى{[6761]} ، ويقوي ذلك قوله : { كدنا } ، وكيف لا يكون برأي يوسف وهو مضطر في محاولته إلى أن يلزمهم حكم السرقة له أخذ أخيه .

والضمير في قوله : { استخرجها } عائد على { السقاية } [ يوسف : 70 ] ، ويحتمل أن يعود على السرقة .

وروي أن إخوة يوسف لما رأوا ذلك قالوا : يا بنيامين بن راحيل قبحك الله ولدت أمك أخوين لصَّين ، كيف سرقت هذه السقاية ؟ فرفع يديه إلى السماء وقال : والله ما فعلت ، فقالوا له : فمن وضعها في رحلك قال : الذي وضع البضاعة في رحالكم .

وما ذكرناه من المعنى في قوله : { وفوق كل ذي علم عليم } هو قول الحسن وقتادة ، وقد روي عن ابن عباس ، وروي أيضاً عنه رضي الله عنه : أنه حدث يوماً بحديث عجيب فتعجب منه رجل ممن حضر ، وقال : الحمد لله { وفوق كل ذي علم عليم } ، وقال ابن عباس : بئس ما قلت ، إنما العليم لله وهو فوق كل ذي علم .

قال القاضي أبو محمد : فبين هذا وبين قول الحسن فرق .


[6759]:قال ابن جني في المحتسب: هو مصدر كالفالج والباطل، فكأنه قال: "وفوق كل ذي علم عليم". وأما على تقدير زيادة [ذي] فيصبح المعنى: "وفوق كل ذي علم عليم" ، وهناك وجه ثالث في تبيين قراءة ابن مسعود ذكره ابن جني أيضا، وهو أن تكون من باب إضافة المسمى إلى الاسم، والمعنى: "وفوق كل شخص يسمى عالما عليم"، وقد كثر عن العرب إضافة المسمى إلى اسمه، فمن ذلك قول الكميت. إليكم ذوي آل النبي تطلعت نوازع من نفسي ظماء وألبب والنوازع هي من الحنين والميل إلى الشيء، وألبب: جمع لب وهو العقل، و المعنى في البيت: إليكم يا آل النبي، يا من تسمون بهذا الاسم، وعليه قول الأعشى: فكذبها بما قالت فصبحهم ذو آل حسان يزجي الموت والشرعا أي:كذبوا زرقاء اليمامة فصبحهم الجيش الذي يقال له:آل حسان، والشرع: جمع شرعة وهي الحبالة التي يصيد بها الصائد.
[6760]:أي: نسبهم المؤذن إلى السرقة برأيه هو.
[6761]:قد يستغنى عن [إما] الثانية بذكر ما يغني عنها نحو قول المثقب العبدي: فإما أن تكون أخي بصدق فأعرف منك غثي من سميني وإلا فاطرحني واتخذني عدوا أتقيك وتتقيني وقد يستغني عن الأولى لفظا كقول النمر بن تولب: سقته الرواعد من صيف وإن من خريف فلن يعدها ومن قول ذي الرمة (ونسب للفرزدق): تلم بدار قد تقادم عهدها وإما بأموات ألم خيالها أي: إما بدار وإما بأمواتـ ويمكن أن يكون ابن عطية على هذا الثاني، أي: حذف إما الأولى، وتقدير الكلام: "إما هذا، وإما أن يقال... الخ".