المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{الٓمٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِۗ وَٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ} (1)

مقدمة السورة:

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

سورة الرعد . بسم الله الرحمن الرحيم هذه السورة مكية قاله سعيد بن جبير ، وقال قتادة هي مدنية غير قوله { ولو أن قرآنا سيرت } الآية {[1]}حكاه الزهراوي ، وحكى المهدوي عن قتادة أن السورة مكية إلا قوله تعالى { ولا يزال الذين كفروا } {[2]} . قال القاضي أبو محمد وقال النقاش هي مكية غير آيتين قوله { ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم } . وقوله { ومن عنده علم الكتاب } {[3]} والظاهر عندي أن المدني فيها كثير وكل ما نزل في شأن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة فهو مدني . وقيل : السورة مدنية حكاه منذر بن سعيد البلوطي وحكاه مكي بن أبي طالب{[4]} .

تقدم القول في فواتح السور وذكر التأويلات في ذلك إلا أن الذي يخص هذا الموضع من ذلك هو ما قال ابن عباس رضي الله عنه : إن هذه الحروف هي من قوله : «أنا الله أعلم وأرى » . ومن قال : إن حروف أوائل السور هي مثال لحروف المعجم - قال : الإشارة هنا ب { تلك } هي إلى حروف المعجم ، ويصح - على هذا - أن يكون { الكتاب } يراد به القرآن ، ويصح أن يراد به التوراة والإنجيل . و { المر } - على هذا - ابتداء ، و { تلك } ابتداء ثان - و { آيات } خبر الثاني ، والجملة خبر الأول - وعلى قول ابن عباس في { المر{[6879]} } يكون { تلك } ابتداء و { آيات } بدل منه ، ويصح في { الكتاب } التأويلات اللذان تقدما .

وقوله : { والذي أنزل إليك من ربك الحق } { الذي } رفع بالابتداء و { الحق } خبره - هذا على تأويل من يرى { المر } حروف المعجم ، و { تلك آيات } ابتداء وخبر . وعلى قول ابن عباس يكون { الذي } عطفاً على { تلك } و { الحق } خبر { تلك } . وإذا أريد ب { الكتاب } القرآن فالمراد ب { الذي أنزل } جميع الشريعة : ما تضمنه القرآن منها وما لم يتضمنه . ويصح في { الذي } أن يكون في موضع خفض عطفاً على الكتاب ، فإن أردت مع ذلك ب { الكتاب } القرآن ، كانت «الواو » عطف صفة على صفة لشيء واحد ، كما تقول : جاءني الظريف والعاقل ، وأنت تريد شخصاً واحداً{[6880]} ، ومن ذلك قول الشاعر : [ المتقارب ]

إلى الملك القرم وابن الهمام ***وليث الكتيبة في المزدحم

وإن أردت مع ذلك ب { الكتاب } التوراة والإنجيل ، فذلك بيّن ، فإن تأولت مع ذلك { المر } حروف المعجم - رفعت قوله : { الحق } على إضمار مبتدأ تقديره : هو الحق ، وإن تأولتها كما قال ابن عباس ف { الحق } خبر { تلك } ومن رفع { الحق } بإضمار ابتداء وقف على قوله : { من ربك } وباقي الآية ظاهر بين إن شاء الله .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[2]:- ولم يكن الله ليمتن على رسوله بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة، ثم ينزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة سنة يصلي بلا فاتحة الكتاب، هذا ما لا تقبله العقول، قاله الواحدي. وقوله تعالى: (ولقد آتيناك...) هو من الآية رقم (87) من سورة الحجر.
[3]:- أخرجه الإمام مالك في الموطأ المشهور بلفظ: (السبع المثاني القرآن العظيم الذي أعطيته) والترمذي وغيرهما، وخرج ذلك أيضا الإمام البخاري وغيره، عن أبي سعيد ابن المعلى في أول كتاب التفسير، وفي أول كتاب الفضائل بلفظ: (السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته). والسبع الطوال هي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، فقوله: والسبع الطوال إلخ. رد على من يقول: إنما السبع المثاني.
[4]:- هو أبو هاشم المكي الليثي، وردت الرواية عنه في حروف القرآن، يروي عن أبيه ابن عمر.
[6879]:هذا في الأصل هو رأي الفراء، وأجازه الحوفي مع ابن عطية، وذكره أيضا الطبري في تفسيره، وقال : "ثم يبتديء الحق بمعنى: "ذلك الحق"، فيكون رفعه بمضمر من الكلام قد استغنى بدلالة الظاهر عليه منه".
[6880]:القرم (بفتح القاف) : السيد المعظم، قيل له ذلك على التشبيه بالفحل الذي يترك من الركوب والعمل و يودع للفحلة. والكتيبة: الطائفة المحدودة من الجيش. والمزدحم: محل الازدحام، والشاهد هنا أن الواو عطفت صفات لشيء واحد، والشاعر يريد: إلى الملك القرم بن الهمام ليث الكتيبة.