المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا} (88)

وقوله تعالى : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن } الآية ، سبب هذه الآية أن جماعة من قريش قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد جئتنا بآية غريبة غير هذا القرآن ، فإنا نقدر على المجيء بمثل هذا ، فنزلت هذه الآية المصرحة بالتعجيز ، المعلمة بأن جميع الخلائق لو تعاونوا إنساً وجناً على ذلك لم يقدروا عليه ، والعجز في معارضة القرآن إنما وقع في النظم والرصف لمعانيه ، وعلة ذلك الإحاطة التي لا يتصف بها إلا الله عز وجل ، والبشر مقصر ضرورة بالجهل والنسيان والغفلة وأنواع النقص ، فإذا نظم كلمة خفي عنه للعلل التي ذكرنا أليق الكلام بها في المعنى ، وقد ذكرت هذه المسألة في صدر هذا الديوان ، وقوله { لا يأتون بمثله } في موضع رفع ، و { لا } متلقية قسماً ، واللام في قوله { لئن } مؤذنه غير لازمة قد تحذف أحياناً ، وقد تجيء هذه اللام مؤكدة فقط ، ويجيء الفعل المنفي مجزوماً ، وهذا اعتماد على الشرط ومنه قول الأعمش : [ البسيط ]

لئن منيت بنا عن غر معركة . . . لا تلفنا عن دماء القوم ننتقل{[7692]}

و «الظهير » المعين ، ومنه قوله عز وجل { وإن تظاهرا عليه }{[7693]} الآية : وفهمت العرب بخلوص فهمها في ميز الكلام ودربتها به ما لا نفهمه نحن ، ولا كل من خالطته حضارة ، ففهموا العجز عنه ضرورة ومشاهدة ، وعلمه الناس بعدهم استدلالاً ونظراً ، ولكل حصل علم قطعي ، لكن ليس في مرتبة واحدة ، وهذا كما علمت الصحابة شرع النبي وأعماله مشاهدة علم ضرورة وعلمنا نحن المتواتر من ذلك بنقل التواتر ، فحصل للجميع القطع ، لكن في مرتبتين ، وفهم إعجاز القرآن أرباب الفصاحة الذين لهم غرائب في ميز الكلام ، ألا ترى إلى فهم الفرزدق شعر جرير في شعر ذي الرمة في قوله : يُعد الناسبون إلى تميم{[7694]} .

الأبيات كلها ، وألا ترى قصة جرير في نوادره مع الفرزدق : في قول الفرزدق : على م تلفتين ، وفي قوله : تلفت أنها تحت ابن قين{[7695]} .

وألا ترى إلى قول الأعرابي : عز فحكم فقطع ، وألا ترى إلى استدلال الآخر على البعث بقوله { حتى زرتم المقابر }{[7696]} فقال إن الزيارة تقتضي الانصراف ومنه علم بشار بقول أبي عمرو بن العلاء في شعر الأعشى : وأنكرتني وما كان الذي نكرت{[7697]} ، ومنه قول الأعرابي للأصمعي : من أحوج الكريم إلى أن يقسم ؟ ومن فهمهم أنهم ببدائههم يأتون بكلمة منثورة تفضل المنقح من الشعر ، وأمثلة ذلك محفوظة ، ومن ذلك أجوبتهم المسكتة إلى غير ذلك من براعتهم في الفصاحة ، وكونهم فيها النهاية ، كما كان السحر في زمن موسى ، والطب في زمن عيسى ، فهم مع هذه الأفهام أقروا بالعجز ، ولجأ المحاد{[7698]} منهم إلى السيف ، ورضي بالقتل والسبا وكشف الحرم ، وهو كان يجد المندوحة عن ذلك بالمعارضة ، وكذلك التحدي بالعشر السور ، والتحدي بالسورة إنما وقع كله على حد واحد في النظم خاصة ، وقيد العشر بالافتراء{[7699]} لأنهم ذكروا أن القرآن مفترى ، فدعاهم بعقب ذكر ذلك إلى الإتيان بعشر سور مفتريات ، ولم يذكر الافتراء في السورة لأنه لم يجر عنهم ذكر ذلك قبل ، بل قال

{ إن كنتم في ريب }{[7700]} على أنه قد جاء ذكر السورة مع ذكرهم الافتراء في سورة هود وقد اختلف الناس في هذا الموضع فقيل دعوا إلى السورة المماثلة في النظم والغيوب وغير ذلك من الأوصاف ، وكان ذلك من تكليف ما لا يطاق ، فلما عسر عليهم خفق بالدعوة إلى المفتريات ، وقيل غير هذا مما ينحل عند تحصيله .


[7692]:هذا البيت من قصيدة الأعشى المشهورة التي قالها ليزيد بن مسهر أبي ثابت الشيباني، والتي يقول في مطلعها: ودع هريرة إن الركب مرتحـــل وهل تطيق وداعا أيها الرجل؟ والتي يخاطبه فيها قائلا في معنى هذا البيت: إننا لا نمل القتال ولا نركن إلى الراحة، ولو كان من قدرك أن تبتلى بنا في أعقاب معركة طاحنة خصناها فلن تجد منا وهنا ولا ضعفا، بل وجدت فينا قوة على القتال وصبرا وجلدا. ومنيت: أصبت أو رميت، وغب: بعد أو عقب، وننتفل: نتبرأ، يقال: انتفل من القوم بمعنى: ابتعد عن نصرتهم ومعونتهم. والبيت شاهد عند النحويين على أنه يجوز في الشعر- بقلة – أن يكون الجواب للشرط إذا اجتمع مع القسم وتأخر عنه، فإن لا (لئن) هنا موطئة للقسم، وقول الشاعر: (لا تلفنا) هو جواب للشرط لا للقسم، بدليل الجزم، ولو كان جوابا للقسم لما جاء مجزوما، وقد قال بعض النحويين: إن اللام في (لئن) زائدة، وابن عطية من هذا الرأي، وعليه أيضا ابن هشام في المغني، قال: وهذا كقول الآخر: لئن كانت الدنيا علي كما أرى تباريح من ليلى فللموت أروح. فإن الشرط قد أجيب بجملة مقرونة بالفاء، ولو كانت اللام موطئة للقسم لم يجب إلا القسم. والخلاف طويل، ولكل حجته، فليرجع إلى الموضوع في كتب النحو وشواهده، كالخزانة، والمغني، والأشموني وشروحه.
[7693]:من الآية (4) من سورة (التحريم).
[7694]:تروي كتب الأدب أن جرير بن عطية الشاعر المشهور مر ذات يوم على ذي الرمة، فقال له: يا غيلان، أنشدني ما قلت في المرئي (وهو شاعر عرف بهذا الاسم)، فأنشده: نبت عيناك عن طلل بجزوى عفته الريح وامتنح القطـارا ومنها: إذا المرئي شب له بنـات عقدن برأسـه إبة وعارا فقال جرير: ألا أعينك؟ قال: بلى، بأبي وأمي، فقال جرير: يعد الناسبون إلى تــميــم بيوت المجد أربعة كبــارا يعدون الرباب وآل سعـد وعمرا ثم حنظلة الخيــارا ويهلك وسطها المرئي لغوا كـا ألغيت في الدية الحـوارا قالوا: فمر ذو الرمة بعد ذلك بالفرزدق، فقال له: أنشدني ما قلت في المرئي، فأنشده القصيدة، فلما انتهى إلى هذه الأبيات، قال الفرزدق: حس، أعد علي فأعادن فقال: "تالله لقد علكهن أشد لحيين منك". وابن عطية بغير إلى هذه القصة، ويريد أن يقول: إن الفرزدق بغريزته وفطرته فهم أن هذه الأبيات ليست من شعر ذي الرمة، وإنما هي من شعر جرير، ولهذا قال له: لقد علكهن (أي: أدار هذه الكلمات في فمه)، والمعنى: لقد أنشأها من هو أشد منك قدرة على قول الشعر، وهو جرير، وهذا هو الفهم بالفطرة، وهو معرفة أسرار البلاغة في الكلام عن ضرورة ومشاهدة.
[7695]:يشير ابن عطية بهذا إلى أبيات من الشعر قالها كل من الفرزدق وجرير في خبر روته عنهما كتب الأدب، وفيه دليل على أن الفطرة هي التي هدتهم إلى معرفة أسرار البلاغة في الكلام، ولهذا عرفوها وفهموها ضرورة، وفهموا وعرفوا أن القرآن فوق مستواهم، وأن عجزهم عنه ضرورة وخبرة وإحساس، والخبر يقول: خرج جرير والفرزدق مرتدفين على ناقة إلى هشام بن عبد الملك، فنزل جرير يبول، فجعلت الناقة تحت الفرزدق تتلفت، فضربها الفرزدق وقال: علام تلفتين وأنت تحتي وخير الناس كلهم أمامي؟ متى تردي الرصافة تستريحي. من التهجير والدبر الدوامي ثم قال لنفسه: الآن يجيء جرير، فأنشده هذين البيتين، فيرد علي ويقول: تلفت أنها تحت ابن قـــــــين إلى الكيرين والفأس الكهـــام متى ترد الرصافة تخز فيها كخزيك في المواسم كل عام ثم جاء جرير والفرزدق يضحك، فقال له: ما يضحكك يا أبا فارس؟ ، قال: لقد قلت بيتين، وأنشده بيتيه: (علام تلفتين...) ، فقال جرير: وأنا القول: (تلفت أنها ....) كما قال الفرزدق سواء، فقال الفرزدق: والله قلت هذين البيتين قبلك، قال جرير: أما علمت أن شيطاننا واحد؟
[7696]:من الآية (2) من سورة (التكاثر)، وابن عطية يشير إلى قصة أعرابي سمع هذه الآية فقال: "بعث القوم للقيامة ورب الكعبة، فإن الزائر منصرف لا مقيم"، وهذا مبني على تأويل ذكره بعض المفسرين، يقولون: {حتى زرتم المقابر} معناها: حتى متم وجئتموها زائرين، ثم ستنصرفون عن هذه القبور إلى بيوتكم الدائمة، إما إلى الجنة، وإما إلى النار، والتعبير بالزيارة يعطي معنى الانصراف عنها إلى المقر الدائم للإنسان.
[7697]:هذا صدر بيت هو ثاني قصيدة قالها الأعشى يمدح هوزة بن علي الحنفي، قال: بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا واحتلت الغمر فالجدين فالفرعا وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا والبيت ي اللسان (نكر)، قال: "أنكرت الشيء وأنا أنكره إنكارا، ونكرته مثله. قال الأعشى: وأنكرني..... البيت"، ومن نفس المعنى قوله تعالى: {نكرهم وأوجس منهم خيفة؛. ومما يروى بيت الأعشى أن الخليل بن أحمد خرج مع صديق له يكنى أبا المعلى، وكان شديد الصلع، ثم مرت بهما امرأة ومعها بنات لها، فأراد أبو المعلى أن يكلمها فنهاه الخليل فلم ينته، وقال لها: يا أمة الله، ألك زوج؟ قالت: لا، ولا واحدة منا، قال: فأنا أتزوجك، ويتزوج هذا إحدى بناتك، قالت له: لقد ابتلاك الله بأن قرع رأسك بمسحاة، وجعل لك عقصة بيضاء في قفاك، وبلغ من جهلك أنك خضبتها بحمرة، فلو كنت خضبت بسواد لغطيت عوارك وأظنك من رهط الأعشى، الذي قال: وأنكرتني... البيت. وهكذا لم يسلم هو والخليل من طول لسانها. أما ما ذكره ابن عطية من فهم بشار وعلمه بقول أبي العلاء في شعر الأعشى فقد أورده الأصفهاني في الأغاني، قال: "حدثني أبو عبيدة: قال: سمعت بشارا يقول وقد أنشد في شعر الأعشى: (وأنكرتني وما كان الذي نكرت) البيت: هذا بيت مصنوع ما يشبه كلام الأعشى، فعجبت لذلك، فلما كان بعد هذا بعشر سنين كنت جالسا عند يونس فقال: حدثني أبو عمرو بن العلاء أنه صنع هذا البيت وأدخله في شعر الأعشى، فجعلت حينئذ أزداد عجبا من فطنة بشار وصحة قريحته وجودة نقده للشعر".
[7698]:المحاد: المخالف المعاند، من المحادة، وهي العناد والمخالفة.
[7699]:وذلك في قوله تعالى في الآية (13) من سورة (هود): {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات}.
[7700]:من الآية (23) من سورة (البقرة).