اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا} (88)

قوله : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن } الآيات ، وقد تقدَّم الكلام على مثلِ هذه الآية .

فصل

قال بعضهم : هب أنَّه ظهر عجز الإنسانِ عن معارضته ؛ فكيف عرفتُم عجز الجنِّ ؟ وأيضاً : فلم لا يجوز أن يقال : إن هذا الكلام نظم الجنِّ ، ألقوهُ على محمد صلى الله عليه وسلم وخصُّوه به على سبيل السَّعي في إضلال الخلق ؟ فعلى هذا : إنَّما تعرفون صدق محمد صلى الله عليه وسلم إذا عرفتم أنَّ محمَّداً صادق في قوله : إنَّه ليس من كلام الجنِّ ، بل من كلامِ الله تعالى ؛ وحينئذٍ : يلزم الدور ، وليس لأحدٍ أن يقول : كيف يعقل أن يكون هذا من قول الجنِّ ؛ لأنا نقول : إنَّ هذه الآية دلَّت على وقوعِ التحدِّي من الجنِّ ، وإنما يحسن وقوعُ هذا التحدِّي ، لو كانوا فصحاء بلغاء ، ومتى كان الأمرُ كذلك ، كان الاحتمال المذكور قائماً .

فالجواب عن الأوَّل : بأنَّ عجز البشر عن معارضته يكون في إثبات كونه معجزاً .

وعن الثاني : أنَّ ذلك ، لو وقع ، لوجب في حكمة الله : أن يظهر ذلك التَّلبيسُ ، وحيث لم يظهر ذلك ، دلَّ على عدمه ، وعلى أنَّ الله تعالى أجاب عن هذه الأسئلةِ بالأجوبة الشَّافية في آخر سورة الشعراء ؛ في قوله : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين تَنَزَّلُ على كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [ الشعراء : 221-222 ] وسيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى- .

قالت المعتزلة : هذه الآية تدلُّ على أنَّ القرآن مخلوقٌ ؛ لأنَّ التحدِّي بالقديم محالٌ ، وقد تقدَّمت هذه الآية في سورة البقرة .

قوله : { لاَ يَأْتُونَ } : فيه وجهان :

أظهرهما : أنه جوابٌ للقسمِ الموطَّأ له باللام .

والثاني : أنه جواب الشرط ، واعتذروا به عن رفعه بأنَّ الشرط ماضٍ ؛ فهو كقوله : [ البسيط ]

وإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألةٍ *** يَقولُ لا غَائبٌ مَالِي ولا حَرِم{[20703]}

واستشهدوا عليه بقول الأعشى : [ البسيط ]

لَئِنْ مُنِيتَ بِنَا عَنْ غِبِّ مَعْركةٍ *** لا تُلْفِنَا مِنْ دِمَاءِ القَوْمِ نَنْتَفِلُ{[20704]}

فأجاب الشرط مع تقدُّمِ لام التوطئة ، وهو دليلٌ للفراء{[20705]} ، ومن تبعه على ذلك ، وفيه ردٌّ على البصريِّين ، حيث يحتَّمون جواب القسمِ عند عدمِ تقدم ذي خبرٍ .

وأجاب بعضهم أنَّ اللام في البيت ليست للتوطئةِ ، بل مزيدةٌ ؛ وهذا ليس بشيء ؛ لأنه لا دليل عليه ، وقال الزمخشريُّ : " لولا اللام الموطِّئةُ ؛ لجاز أن يكون جواباً للشرط ؛ كقوله : [ البسيط ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يَقُولُ لا غَائِبٌ . . . . . . . . . . . . {[20706]}

لأنَّ الشرط وقع ماضياً " . وناقشه أبو حيَّان : بأنَّ هذا ليس مذهب سيبويه ، ولا الكوفيين والمبرِّد ؛ لأنَّ مذهب سيبويه{[20707]} في مثله : أن النية به التقديم ، ومذهب الكوفيين ، والمبرِّد : أنه على حذف الفاء ، وهذا مذهب ثالثٌ ، قال به بعضُ الناس .

قوله : " ولَوْ كَانَ " جملةٌ حاليةٌ ، وتقدَّم تحقيق هذا ، وأنه كقوله - عليه السلام- : " أعطُوا السَّائل ، ولو جَاء على فَرسٍ " ، و " لبَعْضٍ " متعلقٌ ب " ظَهِيراً " .

فصل في معنى الآية

والمعنى : لو كان بعضهم لبعض عوناً ، ومظاهراً ، نزلت حين قال الكفَّار : ولو شئنا لقلنا مثل هذا ، فكذَّبهم الله - عز وجلَّ - فالقرآن معجزٌ في النَّظم ، والتَّأليف ، والإخبار عن الغيوب ، وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة ، لا يشبه كلام الخلق ؛ لأنَّه غير مخلوقٍ ، ولو كان مخلوقاً ، لأتوا بمثله .


[20703]:تقدم.
[20704]:ينظر البيت في ديوانه ص 113، وخزانة الأدب 11/327، 300، 331، 333، 357، والمقاصد النحوية 3/283، 4/437، شرح الأشموني 3/594، شرح ابن عقيل ص 592، الدر المصون 4/418.
[20705]:ينظر: معاني القرآن للفراء 2/130.
[20706]:تقدم.
[20707]:ينظر : الكتاب 1/436.