{ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ والْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا 88 ولَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إلاّ كُفُورًا 89 } [ 88 89 ]
عبارة الآيتين واضحة . وهي قوية في تحديها قوية في تنديدها . فالقرآن سيظل المعجز الممتنع عن التقليد على جميع المخلوقات إنسهم وجنهم ولو تضامنوا معا ؛ لأنه وحي الله تعالى ومظهر سره . وقد صرّف فيه للناس من كل مثل وحجة وحقيقة ما يكفي لإقناعهم ، وإن أكثرهم أهل لكل تنديد لأنهم يأبون مع ذلك إلاّ المماراة والعناد والجحود .
وقد روى الطبري عن ابن عباس : أن الآيتين نزلتا في نفر من اليهود جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن وقالوا له : إنا لا نراه متناسقا كالتوراة وسألوه أن يأتيهم بآية غيره شاهدة على نبوته وأنهم قادرون على أن يأتوا بمثله ، فقال لهم رسول الله : أما وإنكم لتعلمون أنه من عند الله وتجدونه مكتوبا عندكم فأنزل الله الآيتين . وقد توقف ابن كثير في الرواية وقال : إن السورة كلها مكية وسياقها مع قريش . واليهود إنما اجتمعوا بالنبي في المدينة . وقال البغوي : إن الكفار لما قالوا : لو نشاء لقلنا مثل هذا ، كذبهم الله بالآيتين .
ولقد حكت آية سورة الأنفال المدنية على سبيل التذكير بمواقف وأقوال كفار مكة قبل الهجرة قولا روى المفسرون أن قائله النضر بن الحارث وهي { وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلاّ أساطير الأولين 31 } حيث يصح أن يقال بشيء من الجزم : إن في الآيتين ردا وتكذيبا لكفار مكة وإن رواية نزولهما في صدد جدل اليهود مع النبي وتحديهم إياه غير صحيحة .
على أن وحدة السبك والسياق في الآيتين وما قبلهما وما بعدهما تلهم كما هو المتبادر لنا أنهما لم تنزلا فورا بسبب هذا القول الذي حكته آية الأنفال ، وأن هذا القول قد صدر عن قائله قبل نزولهما بمدة ما ، وأنهما جاءتا على سبيل التعقيب والاستطراد بعد الآيات السابقة مباشرة التي نوّه فيها القرآن الذي فيه شفاء ورحمة للمؤمنين ، والتي تقرر أن تنزيله سرّ من أسرار الله وبعد الآيات السابقة لهذه الآيات التي حكى فيها بعض مواقف وأقوال الكفار واستفزازاتهم . ومن المحتمل أن تكونا تضمنتا في الوقت نفسه ردا وتحديا قويين للقائل المتبجح ، والله أعلم .
تعليق على إعجاز القرآن وعجز الناس عنه
ولقد تكررت الإشارة إلى عجز الناس عن الإتيان بمثل القرآن كما تكرر تحدي الكفار بالإتيان بحديث أو سورة أو عدة سور من مثله جوابا على ما كانوا ينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم من افترائه أو تعلمه أو اقتباسه من أساطير الأولين ، مثل آيات سورة الطور هذه { أَمْ يَقُولُونَ تَقَولَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ 33 فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ34 } ومثل سورة يونس هذه { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ 38 } ومثل آية سورة هود هذه { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُورٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ 13 } ومثل آيات سورة البقرة هذه { وإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ 23 فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ ولَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وقُودُهَا النَّاسُ والْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ 24 } . وآيات البقرة مدنية . وهذا يعني أن التحدي تكرر في العهد المكي مرارا ، ثم تكرر في العهد المدني بالإتيان بأي شيء من مثله مهما قلّ . وآيات البقرة صريحة بأن أحدا لم يحاول إجابة التحدي سابقا ، وحاسمة بأن أحدا لن يفعل ذلك في المستقبل .
ولقد تكلم المفسرون وعلماء القرآن كثيرا في موضوع إعجاز القرآن وتحدي الناس بالإتيان بمثله أو بشيء من مثله وعجزهم عن ذلك{[1318]} ومنهم من قال : إن العرب وهم فرسان البلاغة والفصاحة قادرون على سبك بعض السور والجمل المماثلة ولكن الله تعالى صرفهم عنه فظهر منهم العجز . ولا نرى هذا وجيها ولا نفهم حكمة الله بتحديه الناس وصرفهم عنه مع قدرتهم عليه . ومنهم من قال : إن لغة القرآن أعلى من أفهام العرب وأساليبهم ولذلك عجزوا عن الإتيان بمثله . وهذا يتناقض فيما يبدو لنا مع نصوص قرآنية صريحة بأن لغة القرآن وأساليبه مثل لغة العرب وأساليبهم وفي متناول أفهامهم ليعقلوه ويتدبروه كما جاء في آية سورة ص هذه { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ولِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ 29 } وآيات سورة الزمر هذه { ولَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ 27 قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ 28 } وآية سورة فصلت هذه { كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 3 } وآية سورة الزخرف هذه { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 3 } . ولقد حكى القرآن كثيرا من أقوال العرب فجاءت منسجمة مع نظمه ولغته . وقد مرّ من ذلك أمثلة عديدة ومنها آيات سورة الأنفال هذه { وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلاّ أساطير الأولين 31 وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم 32 } ومنها آيات سورة الأحزاب هذه { وإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ والَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وعَدَنَا اللَّهُ ورَسُولُهُ إلاّ غُرُورًا 12 وإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ويَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إلاّ فِرَارًا 13 } وآية سورة سبأ هذه { وإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إلاّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إلاّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى وقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ مُّبِينٌ 43 } ومنهم من جمع بين التنويه ببلاغة أسلوب القرآن وروعة نظمه وسمو طبقته وبين ما احتواه من المبادئ والأسس والتلقينات التي فيها هدى ورحمة للعالمين في كل ظرف ومكان ، والتي لا تناقض بينها ولا تخالف وبين تأثيره في السامعين وروحانيته القوية النافذة{[1319]} . وفي هذا الحق والصواب . وبذلك كله كان معجزة الله الكبرى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، بل واكتفى بها عن إظهار معجزات خارقة استجابة لتحدي الكفار ؛ على ما جاء في آيات عديدة مرّ بعضها ومنها آيات سورة العنكبوت هذه { وقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ 50 أَولَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 51 } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.