في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{قُل لَّئِنِ ٱجۡتَمَعَتِ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَىٰٓ أَن يَأۡتُواْ بِمِثۡلِ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لَا يَأۡتُونَ بِمِثۡلِهِۦ وَلَوۡ كَانَ بَعۡضُهُمۡ لِبَعۡضٖ ظَهِيرٗا} (88)

73

وكما أن الروح من الأسرار التي اختص الله بها فالقرآن من صنع الله الذي لا يملك الخلق محاكاته ، ولا يملك الإنس والجن - وهما يمثلان الخلق الظاهر والخفي - أن يأتوا بمثله ، ولو تظاهروا وتعاونوا في هذه المحاولة :

( قل : لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) . فهذا القرآن ليس ألفاظا وعبارات يحاول الإنس والجن أن يحاكوها . إنما هو كسائر ما يبدعه الله يعجز المخلوقون أن يصنعوه . هو كالروح من أمر الله لا يدرك الخلق سره الشامل الكامل ، وإن أدركوا بعض أوصافه وخصائصه وآثاره .

والقرآن بعد ذلك منهج حياة كامل . منهج ملحوظ فيه نواميس الفطرة التي تصرف النفس البشرية في كل أطوارها وأحوالها ، والتي تصرف الجماعات الإنسانية في كل ظروفها وأطوارها . ومن ثم فهو يعالج النفس المفردة ، ويعالج الجماعة المتشابكة ، بالقوانين الملائمة للفطرة المتغلغلة في وشائجها ودروبها ومنحنياتها الكثيرة . يعالجها علاجا متكاملا متناسق الخطوات في كل جانب ، في الوقت الواحد ، فلا يغيب عن حسابه احتمال من الاحتمالات الكثيرة ولا ملابسة من الملابسات المتعارضة في حياة الفرد وحياة الجماعة . لأن مشرع هذه القوانين هو العليم بالفطرة في كل أحوالها وملابساتها المتشابكة .

أما النظم البشرية فهي متأثرة بقصور الإنسان وملابسات حياته . ومن ثم فهي تقصر عن الإحاطة بجميع الاحتمالات في الوقت الواحد ؛ وقد تعالج ظاهرة فردية أو اجتماعية بدواء يؤدي بدوره إلى بروز ظاهرة أخرى تحتاج إلى علاج جديد !

إن إعجاز القرآن أبعد مدى من إعجاز نظمه ومعانيه ، وعجز الإنس والجن عن الإتيان بمثله هو عجز كذلك عن إبداع منهج كمنهجه يحيط بما يحيط به .