المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حُسۡنٗاۖ وَإِن جَٰهَدَاكَ لِتُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَآۚ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (8)

قوله تعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه } الآية ، روي عن قتادة وغيره أنها نزلت في شأن سعد بن أبي وقاص ، وذلك أنه هاجر فحلفت أمه أن لا تستظل بظل حتى يرجع إليها ويكفر بمحمد فلج{[9210]} هو في هجرته ، ونزلت الآية{[9211]} ، وقيل نزلت في عياش بن أبي ربيعة ، وذلك أنه اعتراه في دنيه نحو من هذا بعد أن خدعه أبو جهل ورده إلى أمه الحديث في كتاب السيرة{[9212]} ، ولا مرية أنها نزلت فيمن كان من المؤمنين بمكة يشقى بجهاد أبويه في شأن الإسلام أو الهجرة فكان القصد بهذه الآية النهي عن طاعة الأبوين في مثل هذا ، لعظم الأمر وكثرة الخطر فيه مع الله تعالى ، ثم إنه لما كان بر الوالدين وطاعتهما من الأمر الذي قررته الشريعة وأكدت فيه وكان من القوي عندهم الملتزم قدم الله تعالى النهي عن طاعتهما ، وقوله { ووصينا الإنسان بوالديه حسناً } على معنى أنا لا نخلّ ببر الوالدين لكنا لا نسلطه على طاعة الله لا سيما في معنى الإيمان والكفر وقوله : { حسناً } يحتمل أن ينتصب على المفعول ، وفي ذلك تجوز ويسهله كونه عاماً لمعان ، كما تقول وصيتك خيراً أو وصيتك شراً ، عبر بذلك عن جملة ما قلت له ، ويحسن ذلك دون حرف جر كون حرف الجر في قوله { بوالديه } لأن المعنى { ووصينا الإنسان } بالحسن في فعله ، مع والديه ، ونظير هذا قول الشاعر : [ الرجز ]

عجبت من دهماء إذ تشكونا . . . ومن أبي دهماء إذ يوصينا

خيراً بها فكأننا جافونا{[9213]} . . . ويحتمل أن يكون المفعول الثاني في قوله { بوالديه } وينتصب { حسناً } بفعل مضمر تقديره يحسن حسناً ، وينتصب انتصاب المصدر ، والجمهور على ضم الحاء وسكون السين ، وقرأ عيسى «حَسَناً » بفتحهما ، وقال الجحدري في الإمام مكتوب «بوالديه إحساناً » قال أبو حاتم يعنى «في الأحقاف » ، وقال الثعلبي في مصحف أبي بن كعب «إحساناً » ، ووجوه إعرابه كالذي تقدم في قراءة من قرأ «حسناً » . وقوله تعالى : { إليَّ مرجعكم } وعيد في طاعة الوالدين في معنى الكفر .


[9210]:لج في الأمر لجاجة: لازمه وأبى أن ينصرف عنه.
[9211]:روي عن سعد رضي الله عنه قال: "كنت بارا بأمي، فأسملت، فقالت: لتدعن دينك أو لا آكل ولا أشرب حتى تموت فتعير بي، ويقال: يا قاتل أمه، وبقيت يوما ويوما، فقلت: يا أماه، لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا، فإن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت، ونزلت: {وإن جاهداك لتشرك بي} الآية. (أسباب النزول للواحدي).
[9212]:عياش بن أبي ربيعة هو أخو أبي جهل لأمه، وقد أسلم وهاجر مع عمر رضي الله عنه، وكانت أمه شديدة الحب له، وحلفت على مثل ما حلفت عليه أم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فتحيل عليه أبو جهل وأخوه الحارث، فشدا وثاقه حين خرج معهما من المدينة إلى أمه قاصدا أن يراها، وجلده كل منهما مائة جلدة ورداه إلى أمه... وذلك في خبر طويل في السيرة، ذكره الطبري، والواحدي.
[9213]:استشهد الفراء بهذه الأبيات الثلاثة في معاني القرآن، قال: "والعرب تقول: أوصيك به خيرا، وآمرك به خيرا، وكأن معناه: آمرك أن تفعل به... ثم تحذف (أن) فتوصل الخير بالوصية وبالأمر، ثم ذكر الأبيات". ومثله قول الحطيئة يوصي ابنته برة: وصيت من برة قلبا حرا بالكلب خيرا وبالحماة شرا وعلى هذا تكون الباء في قوله تبارك وتعالى: [بوالديه]، وفي قول الشاعر الذي يعجب من دهماء ومن والدها: (بها)، وفي قول الحطيئة: (بالحماة وبالكلب) ظرفية بمعنى (في)، والتقدير في الآية الكريمة: "ووصينا الإنسان في أمر والديه بخير"، وقد وضح ابن عطية ذلك. وتأمل المفارقة في بيت الحطيئة حين يفضل الكلب على الحماة.