اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ حُسۡنٗاۖ وَإِن جَٰهَدَاكَ لِتُشۡرِكَ بِي مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٞ فَلَا تُطِعۡهُمَآۚ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (8)

قوله : «حُسْناً » فيه أوجه :

أحدها : أنه نعت مصدر محذوف أي ( إيصَاءً ){[41065]} حسناً ، إما على المبالغة جعل نفس الحسن ، وإما على حذف مضاف ( أي : ذا حُسنٍ ){[41066]} .

الثاني : أنه مفعول به{[41067]} ، قال ابن عطية : «وفي ذلك تجوز » ، والأصل ووصينا الإنسان بالحسن في فعله مع والديه{[41068]} ، ونظير ذلك قول الشاعر :

4025 - عَجِبْتُ مِنْ دَهْمَاءَ إذْ تَشْكُونَا *** وَمِنْ أَبِي دَهْمَاءَ إذْ يُوصينا

خَيْراً بِهَا كَأَنَّمَا خَافُونَا{[41069]} *** . . . . . .

ومنه قول الحطيئة :

4026 - ( وَصَّيْتَ{[41070]} مِنْ بَرَّةَ قَلْباً حَرَّا *** بِالْكَلْبِ خَيْراً وبِالحَمَاةِ شَرَّا{[41071]}

وعلى هذا فيكون الأصل : وصيناه بحسن في بر والديه ، ثم جر «الوالدين » بالهاء فانتصب حسناً وكذلك البيتان . والباء في الآية والبيتين في هذه الحالة للظرفية{[41072]} .

الثالث : أن «بوالديه » هو المفعول الثاني ، فنصب «حسناً » بإضمار فعل ، أي يحْسُن حسناً ، فيكون مصدراً مؤكداً كذا قيل{[41073]} .

وفيه نظر ، لأَنَّ عامل المؤكد لا يحذف{[41074]} .

الرابع : أنه مفعول به على التضمين أي من ألزمناه حسناً{[41075]} .

الخامس : أنه على إسقاط الخافض أي «بحُسْنٍ »{[41076]} .

وعبر صاحب التحرير{[41077]} عن ذلك بالقطع . {[41078]}

السادس : أن ( بعض ){[41079]} الكوفيين قدره ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه حسناً{[41080]} . وفيه حذف «أن » وصلتها ، وإبقاء معمولها ، ولا يجوز عند البصريين{[41081]} .

السابع : أن التقدير : وصيناه بإيتاء والديه حسناً{[41082]} . وفيه حذف المصدر وإبقاء معموله ولا يجوز{[41083]} .

الثامن : أنه منصوب انتصاب «زيداً » في قولك لمن رأيته متهيئاً للضرب «زَيْداً » أي اضرب زيداً ، والتقدير هنا : أَوْلهما حسناً ، أو افعل بهما حسناً . قالهما الزمخشري{[41084]} .

وقرأ عيسى{[41085]} والجحدري{[41086]} : «حَسَناً »{[41087]} وهما لغتان ، كالبُخْل والبَخَل . وقد تقدم ذلك في أوائل البقرة{[41088]} .

وقرئ : إحساناً{[41089]} ، من قوله تعالى : { وبالوالدين إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] .

فصل :

معنى حسناً أي برّاً بهما ، وعطفاً عليهما ، والمعنى : ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه ما يحسن{[41090]} . نزلت هذه الآية ، والتي في سورة لقمان{[41091]} والأحقاف{[41092]} في سعد بن أبي وقاص{[41093]} ، وهو سعد بن مالك أبو إسحاق الزهري وأمه حُمْنَةُ بنت أبي سفيان بن أمية من عبد شمس ، لما أسلم ، وكان من السابقين الأولين وكان باراً بأمه ، قالت أمه : ما هذا الدين الذي أَحْدَثْتَ ؟ والله لا آكلُ ولا أشربُ حتى ترجعُ إلى ما كنت عليه أو أموت فتعير بذلك أبد الدهر ، ويقال : يا قاتل أمِّهِ .

ثم إنها مكثت يوماً وليلة لم تأكل ولم تشرب ( ولم تَسْتَظِلَّ فأصبحت قد جهدت ، ثم مكثت يوماً آخر لم تأكل ولم تشرب ){[41094]} فجاء «سعد » إليها ، وقال يا أُمَّاهُ : لو كانت مائة نفس ( فخرجت نفساً ){[41095]} نفساً ما تركت ديني فكُلِي ، وإن شئت فلا تأكلي فلما أيست منه أكلت وشربت فأنزل الله هذه الآية{[41096]} ، وأمره الله بالبر بوالديه والإحسان إليهما .

واعلم أنه إنما أمر بالإحسان للوالدين لأنهما سبب وجود الولد بالولادة وسبب بقائه بالتربية المعتادة ، والله تعالى بسبب{[41097]} له في الحقيقة بالإرادة ، وسبب بقائه بالإعادة للسعادة ، فهو أولى بأن يحسن العبد حاله ( معه ){[41098]} .

قوله : { وَإِن جَاهَدَاكَ لتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا } .

قال عليه ( الصلاة ){[41099]} والسلام : «لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ في معصية الله »{[41100]} ثم أوعد بالمصير إليه ، فقال : { إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أخبركم بصالح أعمالكم وسيئها فأجازيكم عليها كأنه تعالى يقول : لا تظنوا أني غائب عنكم وآباؤكم حاضرون فتوافقون الحاضرين في الحال اعتماداً على غيبتي ، وعدم علمي بمخالفتكم فإني حاضر معكم أعلم ما تفعلون ، ولا أنسى فأنبئكم بجميعه{[41101]} .


[41065]:سقط من ب.
[41066]:سقط من ب كذلك.
[41067]:وانظر هذا في مشكل إعراب القرآن 2/166 والبحر المحيط 7/142، الدر المصون 4/295.
[41068]:البحر المحيط 7/141.
[41069]:أرجاز مجهولة القائل والشاهد: يوصينا خيراً بها" حيث تعدى الفعل إلى المفعول الثاني بالباء وهو الأصل في تعدية هذا الفعل وأشباهه حيث لا يقال: وصيته خيراً، وانظر: القرطبي 13/329، والبحر المحيط 7/142 ومعاني الفراء، تحقيق محمد علي النجار- الهيئة العامة للكتاب 2/120، وفتح القدير 4/193، والدر المصون 4/295.
[41070]:البيت كله سقط من ب.
[41071]:الرواية المشهورة في الشطر الثاني: "والحماة شرّا" بدون الباء. وقد نسب إلى الخطيئة خطأً، وإنما هو لأبي النجم العجلي وبعده: لا تسأمي نهكاً لها وضرّاً *** والحيَّ عمّيهم بشرٍّ طرَّا وشاهده: "وصيت من برة" حيث عدى الفعل "وصى" إلى المفعول الثاني بالباء. ويروى: "أوصيت" وهو فرق لفظي لا معنوي. وانظر: الكامل للمبرد 2/94، 95 تحقيق محمد أبو الفضل نهضة مصر 1981م والمسائل العسكرية للفارسي 163 تحقيق د/ محمد الشاطر ط المدني 1403 هـ/1982 م، ومعاهد التنصيص للعباسي البهية 1316 هـ (1/9) والدر المصون (4/295).
[41072]:قاله أبو حيان في البحر بالمعنى والسمين في الدر باللفظ 4/295.
[41073]:وهو رأي ابن عطية فيما نقله أبو حيان في البحر المرجع السابق.
[41074]:قاله السمين في الدر 4/295.
[41075]:قيل في المرجع السابق وقاله أيضاً أبو البقاء في التبيان 1029.
[41076]:نقله أبو حيان في بحره ولم يعينه أي لم يعين من قال به. وانظر كذلك الدر المصون 4/295.
[41077]:لعله التحرير والتخيير لأقوال أئمة التفسير في معاني كلام السميع البصير للشيخ العلامة جمال الدين أبي عبد الله محمد بن سليمان المعروف بابن النقيب المقدسي الحنفي المتوفى سنة 698 هـ وهو كبير في نيف وخمسين مجلداً، انظر: كشف الظنون لحاجي خليفة 1/308 دار العلوم الحديثة بيروت.
[41078]:القرطبي 13/327، 328 وانظر: البحر المحيط أيضاً المرجع السابق.
[41079]:سقط من ب.
[41080]:المرجعين السابقين.
[41081]:في الكتاب 1/307. تحقيق هارون، الخانجي أن حذف أن دون صلتها يجوز في الشعر للاضطرار، يقول: "فحملوه على أن، لأن الشعراء قد يستعملون أن ههنا مضطرين".
[41082]:الكشاف 3/197.
[41083]:قاله أبو حيان في البحر 7/142.
[41084]:الكشاف 3/197، 198.
[41085]:المراد به عند الإطلاق عيسى بن عمر الثقفي، أخذ عن عبد الله بن أبي إسحاق، وغيره، وأخذ عنه الخليل له كتابات في النحو وكان مشهوراً في القراءات، ثقة، عالماً بالعربية، وكان يتقعر في العربية مات سنة 149 هـ، انظر: أخبار النحويين البصريين 25 ونزهة الألباء جمعية إحياء مآثر علماء العرب، د.ت 13، 14، 15.
[41086]:تقدم.
[41087]:البحر المحيط 7/142، والكشاف 3/198، ومختصر ابن خالويه 114 وهي شاذة.
[41088]:يشير إلى قوله تعالى: {وقولوا للناس حسناً}[البقرة: 84]، وانظر: اللباب 1/70.
[41089]:نقلها الزجاج في معاني القرآن وإعرابه 4/161.
[41090]:السابق.
[41091]:وهي قوله: {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن}[لقمان: 14].
[41092]:وهي: {ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمُّه كرهاً ووضعته كرهاً}[الأحقاف: 15].
[41093]:انظر تفسير الإمام ابن كثير 3/445.
[41094]:ما بين القوسين سقط من ب.
[41095]:سقط كذلك من ب.
[41096]:وانظر أيضاً أسباب النزول للسيوطي 133، وتفسير فتح القدير 4/195.
[41097]:كذا في النسختين وفي الرازي: سبب.
[41098]:ساقط من "أ" والأصل.
[41099]:زيادة من "ب".
[41100]:الحديث رواه ابن ماجه في سننه عن ابن مسعود رضي الله عنه في الجهاد بلفظ "لا طاعة لمن عصى الله" وانظر: ابن ماجه 2/956.
[41101]:قاله الرازي في التفسير الكبير 25/36.