المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلۡيَتَٰمَىٰ ظُلۡمًا إِنَّمَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ نَارٗاۖ وَسَيَصۡلَوۡنَ سَعِيرٗا} (10)

قال ابن زيد : نزلت في الكفار الذين كانوا لا يورثون النساء والصغار ، ويأكلون أموالهم ، وقال أكثر الناس : نزلت في الأوصياء الذي يأكلون ما لم يبح لهم من مال اليتيم ، وهي تتناول كل آكل وإن لم يكن وصياً ، وسمي آخذ المال على كل وجوهه آكلاً لما كان المقصود هو الأكل وبه أكثر الإتلاف للأشياء ، وفي نصه على البطون من الفصاحة تبيين نقصهم ، والتشنيع عليهم بضد مكارم الأخرق ، من التهافت بسبب البطن ، وهو أنقص الأسباب وألأمها حتى يدخلوا تحت الوعيد بالنار ، و { ظلماً } معناه : ما جاوز المعروف مع فقر الوصي ، وقال بعض الناس : المعنى أنه لما يؤول أكلهم للأموال إلى دخولهم النار قيل : { يأكلون } النار ، وقالت طائفة : بل هي حقيقة أنهم يطعمون النار ، وفي ذلك أحاديث ، منها حديث أبي سعيد الخدري قال : حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسري به ، قال ، رأيت أقواماً لهم مشافر كمشافر الإبل ، وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخراً من نار ، تخرج من أسافلهم ، قلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً{[3865]} ، وقرأ جمهور الناس «وسيَصلون » على إسناد الفعل إليهم ، وقرأ ابن عامر بضم الياء واختلف عن عاصم ، وقرأ أبو حيوة ، و «سيُصلُون » بضم الياء واللام ، وهي ضعيفة ، والأول أصوب ، لأنه كذلك جاء في القرآن في قوله : { لا يصلاها إلا الأشقى }{[3866]} وفي قوله : { صال الجحيم }{[3867]} والصلي هو التسخن بقرب النار أو بمباشرتها ، ومنه قول الحارث بن عباد{[3868]} :

لم أكن من جناتها ، علم الله . . . وإني بحرِّها اليوم صال

والمحترق الذي يذهبه الحرق ليس بصال إلا في بدء أمره ، وأهل جهنم لا تذهبهم فهم فيها صالون ، «والسعير » : الجمر المشتعل ، وهذه آية من آيات الوعيد ، والذي يعتقده أهل السنة أن ذلك نافذ على بعض العصاة ، لئلا يقع الخبر بخلاف مخبره ، ساقط بالمشيئة عن بعضهم ، وتلخيص الكلام في المسألة : أن الوعد في الخير ، والوعيد في الشر ، هذا عرفهما إذا أطلقا ، وقد يستعمل الوعد في الشر مقيداً به ، كما قال تعالى : { النار وعدها الله ، الذين كفروا }{[3869]} فقالت المعتزلة : آيات الوعد كلها في التائبين والطائعين ، وآيات الوعيد في المشركين والعصاة بالكبائر ، وقال بعضهم : وبالصغائر ، وقالت المرجئة : آيات الوعد كلها فيمن اتصف بالإيمان الذي هو التصديق ، كان من كان من عاص أو طائع ، وقلنا أهل السنة والجماعة : آيات الوعد في المؤمنين الطائعين ومن حازته المشيئة من العصاة ، وآيات الوعيد في المشركين ومن حازه الإنفاذ من العصاة ، والآية الحاكمة بما قلناه قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لما يشاء }{[3870]} فإن قالت المعتزلة لمن يشاء يعني التائبين ، رد عليهم بأن الفائدة في التفضيل كانت تنفسد ، إذ الشرك أيضاً يغفر للتائب ، وهذا قاطع بحكم قوله { لمن يشاء } بأن ثم مغفوراً له وغير مغفور ، واستقام المذهب السني .


[3865]:- أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم، انظر فتح القدير 1/ 430 ط دار الفكر. بيروت.
[3866]:- من الآية (16) من سورة الليل.
[3867]:- من الآية (163) من سورة الصافات.
[3868]:- زعيم بني بكر، لم يشترك أول الأمر في حرب البسوس، إلا بعد أن قتل ابنه بجير، وعدّ بواء بشسع نعل كليب؛ وعندئذ قال الحارث: "قربا مربط النعامة مني"- والنعامة فرسه، وهو في هذا البيت يبرئ نفسه من أن يكون أحد جناة تلك الحرب، ولكنه لم يملك إلا أن يصلى بحرها، (انظر الأغاني 5/ 40 ط. دار الثقافة).
[3869]:- من الآية (72) من سورة الحج.
[3870]:- من الآية (48) من سورة النساء.