البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلۡيَتَٰمَىٰ ظُلۡمًا إِنَّمَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ نَارٗاۖ وَسَيَصۡلَوۡنَ سَعِيرٗا} (10)

صلى بالنار تسخن بها ، وصليته أدنيته منها .

التسعير : الجمر المشتعل من سعرت النار أوقدتها ، ومنه مسعر حرب .

{ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً } نزلت في المشركين كانوا يأكلون أموال اليتامى ولا يورثونهم ولا النساء ، قاله : ابن زيد .

وقيل : في حنظلة بن الشمردل ، ولي يتيماً فأكل ماله .

وقيل : في زيد بن زيد الغطفاني ولي مال ابن أخيه فأكله ، قاله : مقاتل .

وقال الأكثرون : نزلت في الأوصياء الذين يأكلون من أموال اليتامى ما لم يبح لهم ، وهي تتناول كل أكل بظلم لم يكن وصياً وانتصاب ظلماً على أنه مصدر في موضع الحال أو مفعول من أجله ، وخبران هي الجملة من قوله : إنما يأكلون .

وفي ذلك دليل على جواز وقوع الجملة المصدرة بأن خبراً ، لأن وفي ذلك خلاف .

وحسن ذلك هنا تباعدهما يكون اسم إنّ موصولاً ، فطال الكلام بذكر صلته .

وفي بطونهم : معناه ملء بطونهم يقال : أكل في بطنه ، وفي بعض بطنه .

كما قال :

كلوا في بعض بطنكم تعفوا *** فإن زمانكم زمن خميص

والظاهر : تعلق في بطونهم بيأكلون ، وقاله الحوفي .

وقال أبو البقاء : هو في موضع الحال من قوله : ناراً .

ونبّه بقوله : في بطونهم على نقصهم ، ووصفهم بالشره في الأكل ، والتهافت في نيل الحرام بسبب البطن .

وأين يكون هؤلاء من قول الشاعر ؟ !

تراه خميص البطن والزاد حاضر *** وقول الشنفري :

وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن *** بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل

وظاهر قوله : ناراً أنهم يأكلون ناراً حقيقة .

وفي حديث أبي سعيد عن ليلة الإسراء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رأيت قوماً لهم مشافر كمشافر الإبل ، وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صحراً من نار يخرج من أسافلهم ، فقلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً وبأكلهم النار حقيقة » قالت طائفة : وقيل : هو مجاز ، لما كان أكل مال اليتيم يجر إلى النار والتعذيب ، بها عبر عن ذلك بالأكل في البطن ، ونبه على الحامل على أخذ المال وهو البطن الذي هو أخس الأشياء التي ينتفع بالمال لأجلها ، إذ مآل ما يوضع فيه إلى الاضمحلال والذهاب في أقرب زمان .

ولذلك قال : « ما ملأ الإنسان وعاء شراً من بطنه »

وقرأ الجمهور : وسيصلون مبنياً للفاعل من الثلاثي .

وقرأ ابن عامر وأبو بكر : بضم الياء وفتح اللام مبنياً للمفعول من الثلاثي .

وابن أبي عبلة : بضم الياء وفتح الصاد واللام مشدّدة مبنياً للمفعول .

والصلا من : التسخن بقرب النار ، والإحراق إتلاف الشيء بالنار .

وعبر بالصلا بالنار عن العذاب الدائم بها ، إذ النار لا تذهب ذواتهم بالكلية ، بل كما قال : { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب } وهذا وعيد عظيم على هذه المعصية .

وجاء يأكلون بالمضارع دون سين الاستقبال ، وسيصلون بالسين ، فإن كان الأكل للنار حقيقة فهو مستقبل ، واستغنى عن تقييده بالسين بعطف المستقبل عليه .

وإن كان مجازاً فليس بمستقبل ، إذ المعنى : يأكلون ما يجر إلى النار ويكون سبباً إلى العذاب بها .

ولما كان لفظ نار مطلقاً في قوله : إنما يأكلون في بطونهم ناراً ، قيد في قوله سعيراً ، إذ هو الجمر المتقد .

/خ10