الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلۡيَتَٰمَىٰ ظُلۡمًا إِنَّمَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ نَارٗاۖ وَسَيَصۡلَوۡنَ سَعِيرٗا} (10)

قوله تعالى : { ظُلْماً } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مفعولٌ من أجله ، وشروطُ النصبِ موجودةٌ . والثاني : أنه مصدرٌ في محل نصب على الحال أي : يأكلونه ظالِمين ، والجملةُ مِنْ قولِه : { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ } في محلِّ رفعٍ خبراً ل " إنَّ " ، وفي ذلك دلالةٌ على وقوعِ خبر " إنَّ " جملةً مصدرةً ب " إنَّ " وفي ذلك خلافٌ . قال الشيخ : " وحَسَّنة هنا وقوعُ اسمِ " إنَّ " موصولاً فطال الكلامُ بصلةِ الموصولِ ، فلمَّا تباعَدَ لم يُبالَ بذلك ، وهذا أحسنُ مِنْ قولِك : " إنَّ زيداً إنَّ أباه منطلقٌ " . ولقائلٍ أن يقول : " ليس فيها دلالةٌ على ذلك ؛ لأنَّها مكفوفةٌ ب " ما " ، ومعناها الحصرُ فصارت مثلَ قولِك في المعنى : " إنَّ زيداً ما انطلق إلا أبوه " وهو مَحَلُّ نظر .

قوله : { فِي بُطُونِهِمْ } فيه وجهان أحدُهما : أنه متعلِّقٌ ب " يأكلون " أي : بطونُهم أوعيةٌ للنار : إمَّا حقيقةً بأن يَخلق اللهُ لهم ناراً يأكلونها في بطونِهم ، أو مجازاً بأَنْ أطلق المُسَبَّبَ وأراد السببَ . الثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ ؛ لأنه حالٌ مِنْ " ناراً " ، وكان في الأصلِ صفةً للنكرة فلمَّا قُدِّمَتْ انتصبَتْ حالاً .

وذَكَر أبو البقاء هذا الوجهَ عن أبي علي في " تذكرته " ، وحَكَى عنه أنه منع أن يكونَ ظرفاً ل " يأكلون " ، فإنَّه قال : { فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } قد تقدَّم في البقرة منه شيءٌ ، ويخصُّ هذا الموضع أن " في بطونهم " حالٌ من " ناراً " أي : ناراً كائنةً في بطونِهم ، وليس بظرفٍ ل " يأكلون " ، ذكره في " التذكرة " . وفي قوله : " والذي يَخُصُّ هذال الموضع " فيه نظر ، فإنه كما يجوز أن يكونَ " في بطونهم " حالاً من " نار " هنا يجوز أن يكونَ حالاً من " النار " في البقرة ، وفي إبداء الفرقِ عُسْرٌ ، ولم يظهر في منعِ أبي علي كونَ " في بطونهم " ظرفاً للأكل وجهٌ ظاهر .

قوله : { وَسَيَصْلَوْنَ } قرأ الجمهور بفتحِ الياء واللام ، وابن عامر وأبو بكر بضمِّ الياء مبنياً للمفعول من الثلاثي . ويَحْتمل أن يكونَ من أَصْلى ، فلمَّا بُني للمفعولِ قام الأولُ مقامَ الفاعلِ . وابن أبي عبلة بضمِّهما مبنياً للفاعلِ من الرباعي ، والأصلُ على هذه القراءة : سيُصْلِيُون من أصْلى مثل يُكْرِمون من أكرم ، فاستثقِلَت الضمةُ على الياءِ فَحُذِفت فالتقى ساكنان ، فحُذِفَ أولُهما وهو الياءُ وضُمَّ ما قبل الواو لتصِحَّ .

و " أَصْلَى " : يُحتمل أَن ْ تكونَ الهمزةُ فيه للدخول في الشيء ، فيتعدَّى لواحد وهو " سعيراً " وأن تكونَ للتعديةِ ، فالمفعولُ محذوفٌ ، أي : يُصْلُون أنفسَهم سعيراً .

وأبو حيوة بضمِّ الياءِ وفتحِ الصاد ، واللام مشددة ، مبنياً للمفعول من " صَلَّى " مضعفاً . قال أبو البقاء : " والتضعيفُ للتكثيرِ " .

والصِّلْيُ : الإِيقادُ بالنارِ ، يقال : صَلِي بكذا بكسر العين ، وقوله :

{ لاَ يَصْلاَهَآ } [ الليل : 15 ] أي يَصْلَى بها . وقال الخليل : " صَلِي الكافرُ النارَ " قاسَى حَرَّها . وصلاه النارَ وأَصْلاه غيرُه ، هكذا قال الراغب ، وظاهرُ هذه العبارةِ أنَّ فَعِل وأَفْعَل بمعنىً ، يتعدَّيان إلى اثنين ثانيهما بحرفِ الجر ، وقد يُحْذَف . وقال غيرُه : " صَلِيَ بالنارِ أي : تَسَخَّن بقربها " ، ف " سعيراً " على هذا منصوبٌ على إسقاط الخافض . ويَدُلُّ على أنَّ أصلَ " يَصْلاها " يَصْلَى بها قولُ الشاعر :

إذا أَوْقَدُوا ناراً لحربِ عَدُوِّهم *** فقد خابَ مَنْ يَصْلَى بها وسعيرِها

وقيل : يُقال صَلَيْتُه النارَ : أَدْنَيْتُه منها ، فيجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً مِنْ غيرِ إسقاطِ خافضٍ . والسعيرُ في الأصلِ : الجَمْرُ المشتعل ، سَعَرْتُ النارَ : أَوْقَدْتُها ، ومنه : " مُسْعِرُ حربٍ " على التشبيهِ . والمِسْعَرُ : الآلة التي تُحَرَّك بها النار .