تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلۡيَتَٰمَىٰ ظُلۡمًا إِنَّمَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ نَارٗاۖ وَسَيَصۡلَوۡنَ سَعِيرٗا} (10)

{ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا }

المفردات :

يأكلون في بطونهم نارا : أي يأكلون ما يؤدي بهم إلى النار ليعاقبوا فيها على ما أكلوه .

وسيصلون سعيرا : أي وسيدخلون نارا هائلة ، من صلى النار بكسر اللام أي قاسى حرها : والسعير النار الموقدة ، من سعرت النار أوقدتها .

التفسير :

تحدثت السورة عن اليتيم ، وحذرت من أكل ماله بالباطل ، وكشفت الحيل والألاعيب التي يلجأ إليها الأوصياء : نجد ذلك في الآية الثانية والثالثة ، والسادسة ، والثامنة والتاسعة من سورة النساء .

وفي هذه الآية العاشرة تأكيد لما سبق ، وتحذير من أكل مال اليتيم ظلما وعدوانا ، وساقت ذلك في صورة حسية مفرغة ، صورة النار في البطون ، وصورة السعير في النهاية . . .

" إن هذا المال - مال اليتيم - لهو نار وإنهم ليأكلون هذه النار . وإن مسيرهم لإلى السعير ، فهي النار إذن تشوي البطون والجلود ، هي النار إذن من باطن وظاهر . . . هي النار مجسمة في هذا المشهد تكاد تحسها البطون وتكاد تراها الأبصار " 35 .

" وقد أكد الله الوعيد في أكل مال اليتيم ، رحمة من الله تعالى باليتامى لأنهم لكمال ضعفهم وعجزهم استحقوا من الله مزيد العناية والكرامة ، وما أشد دلالة هذا الوعيد على سعة رحمته ، وكثرة عفوه وفضله ، لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى ، بلغت عناية الله لهم إلى الغاية القصوى " 36 .

وفي أسباب النزول للواحدي ، وتفسير القرطبي والكواشي ، أن هذه الآية نزلت في رجل من غطفان يقال له : مرثد بن زيد ، ولي مال ابن أخيه وهو يتيم صغير فأكله ، فأنزل الله تعالى فيه : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } . أي بغير حق { إنما يأكلون في بطونهم نارا } . أي المال الحرام الذي يفضي بهم إلى النار :

{ وسيصلون سعيرا } : أي سيدخلون النار المسعرة يقاسون ويشتوون بحريقها .

قال تعالى : { فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلها إلا الأشقى } ( الليل 14-15 ) تقول : صليت اللحم إذا شويته ، فإن أردت أنك أحرقته قلت أصليته37 .

وللمفسرين في تفسير قوله تعالى : { إنما يأكلون في بطونهم نارا } . اتجاهان :

أولهما : أن الآية على ظاهرها ، وأن الآكلين لمال اليتامى ظلما سيأكلون النار يوم القيامة .

واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم : " يبعث يوم القيامة قوم من قبورهم تأجج أفواههم نارا . قيل يا رسول الله من هم ؟ قال : ألم تر أن الله قال : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا . . }38 .

وثانيها : أن الكلام على المجاز لا على الحقيقة ، وان المراد إنما يأكلون في بطونهم المال الحرام الذي يفضي بهم إلى النار .

وقد اخرج أبو داود والنسائي والحاكم وغيرهم أنه لما نزلت هذه الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه وشرابه ، فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى { ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم . . الآية } . ( البقرة 220 ) . فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم39 .

قال الفخر الرازي : ومن الجهال من قال : صارت هذه الآية منسوخة بتلك وهو بعيد ، لأن هذه الآية في المنع من الظلم وهذا لا يصير منسوخا بل المقصود أن مخالطة أموال اليتامى إن كانت على سبيل الظلم فهي من أعظم أبواب الإثم كما في هذه الآية ، وإن كانت على سبيل التربية والإحسان فهي من أعظم أبواب البر ، كما في قوله تعالى : وإن تخالطوهم فإخوانكم . . . 40 . ( البقرة 220 ) .

دعوى باطلة :

يدعي بعض المغرضين أن القرآن لم يهتم بالصغار . . . وهذه دعوى باطلة ، فقد عنى القرآن باليتيم وحث على إكرامه ورعايته ليكون عضوا صالحا في المجتمع وكانت التربية تتم بالقدوة والأسوة ، وفي سورة لقمان وصايا حكيم لابنه ، وفي آيات كثيرة نجد وصية للآباء برعاية أبنائهم وحسن توجيههم ، ووقايتهم من النار ، وأمرهم بالصلاة ، وكذلك في السنة المطهرة .

وقد ادعى بعض المغرضين أن التشريع الإسلامي مأخوذ عن التشريع الروماني ، وهذه دعوى باطلة لما يأتي :

1- التشريع الروماني مأخوذ عن الألواح الاثنى عشر والتشريع الروماني في سوريا وما جاورها نظر إلى العرف السائد فدونه ، وكان يرجع إليه كقانون وأحيانا يقضي القضاء بمقتضى العرف بدون قانون . فكيف يؤخذ من تدوين عرف لشريعة نزلت كاملة شاملة .

2- علماء الغرب أنفسهم يعترفون بانفراد القرآن الكريم بالحديث عن اليتيم ، وإفاضة القول في الوصية به ، فالقانون الروماني يهدف إلى أن يأخذ الوصي نصيب الأسد بينما القانون الإسلامي على النقيض من ذلك كله ، توصية باليتيم ، وتحذير من أكل ماله بشتى الطرق ، ولم يجعل للوصي الحق في أخذ شيء من المال إلا إذا كان فقيرا فليأكل بالمعروف .

من هدى السنة :

1- في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اجتنبوا السبع الموبقات ، قيل : يا رسول الله ، وما هن ؟ قال الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " 41 .

2- روى البخاري وغيره عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أنا وكافل اليتيم في الجنة كهذا " . وقال بأصبعيه السبابة والوسطى ، وأشار وفرج بين أصبعيه السبابة والوسطى42 .

وكان سلوك النبي الكريم قدوة حسنة في رعاية اليتامى وكفالتهم ليكونوا لبنة صالحة لا يحقدون على المجتمع ، ولا يضمرون الشر لمن ظلم ونجد الوصية باليتيم في القرآن المكي والمدني .

فمن القرآن المكي قوله تعالى : { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا . ( الإسراء 34 ) .

وقال تعالى : { ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث } . ( الضحى 2-11 ) .

ومن القرآن المدني ما ورد في الآيات العشر الأولى من سورة النساء وفيها وصايا متكررة باليتيم .

ومن القرآن المدني قوله تعالى : { ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم } ( البقرة 220 ) .