المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{ثُمَّ بَدَّلۡنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلۡحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدۡ مَسَّ ءَابَآءَنَا ٱلضَّرَّآءُ وَٱلسَّرَّآءُ فَأَخَذۡنَٰهُم بَغۡتَةٗ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ} (95)

ثم قال تعالى أنه بعد إنفاذ الحكم في الأولين بدل للخلق مكان السيئة وهي «الباساء » و «الضراء » الحسنة وهي «السراء » والنعمة ، وهذا بحسب ما عند الناس ، وإلا فقد يجيء الأمر كما قال الشاعر : [ البسيط ]

قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت*** ويبتلي الله بعض القوم بالنعم

قال القاضي أبو محمد : وهذا إنما يصح مع النظر إلى الدار الآخرة والجزاء فيها ، والنعمة المطلقة هي التي لا عقوبة فيها : والبلوى المطلقة هي التي لا ثواب عليها ، و { حتى عفواً } معناه : حتى كثروا يقال عفا النبات والريش «يعفو » إذا كثر نباته ، ومن هذا المعنى قول الشاعر : [ الوافر ]

ولكنها يعضُّ السيف منها*** بأسوق عافيات الشحم كوم

وعليه قوله صلى الله عليه وسلم «أحفوا الشوارب واعفوا اللحى » وعفا أيضاً في اللغة بمعنى درس وبلى فقال بعض الناس هي من الألفاظ التي تسعتمل للضدين ، أما قول زهير :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . *** على آثار من ذهب العفاء

فيحتمل ثلاثة معانٍ الدعاء بالدرس ، والإخبار به ، والدعاء بنمو والنبات ، كما يقال جادته الديم وسقته العهاد ولما بدل الله حالهم بالخير لطفاً بهم فنموا رأى الخلق بعد ذلك للكفر الذي هم فيه أن إصابة { الضراء والسراء } إنما هي بالاتفاق ، وليست بقصد كما يخبر النبي ، واعتقدوا أن ما أصابهم من ذلك إنما هو كالاتفاق الذي كان لآبائهم فجعلوه مثالاً ، أي قد أصاب هذا آباءنا فلا ينبغي لنا أن ننكره ، فأخبر الله تعالى أنه أخذ هذه الطوائف التي هذا معتقدها ، وقوله { بغتة } أي فجأة وأخذة أسف وبطشاً للشقاء السابق لهم في قديم علمه ، و { السراء } السرور والحبرة ، { وهم لا يشعرون } معناه وهم مكذبون بالعذاب لا يتحسسون لشيء منه ولا يستشعرونه باستذلال وغيره .