اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ثُمَّ بَدَّلۡنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلۡحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدۡ مَسَّ ءَابَآءَنَا ٱلضَّرَّآءُ وَٱلسَّرَّآءُ فَأَخَذۡنَٰهُم بَغۡتَةٗ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ} (95)

بين تعالى أنَّ تدبيره في أهْلِ القرى لا يجري على نَمَطٍ وَاحِدٍ وَإنَّمَا يُدَبِّرُهُم بما يَكُونُ إلى الإيمانِ أقرب فقال : { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة } ؛ لأنَّ ورود النِّعمة [ في البدن والمال ] بعد البأساء والضَّرَّاءِ يدعو إلى الانْقِيَادِ ، والاشتغال بالشُّكْرِ .

وفي " مكان " وجهان :

أظهرهما : أنَّهُ مفعول به لا ظَرْف ، والمعنى : بَدَّلْنَا مكان الحال السَّيِّئَةِ [ الحال الحسنة ]{[16576]} ، فالحسنةُ هي المأخوذة الحاصلةُ ومكان السيِّئةِ هو المتروك الذَّاهِبُ ، وهو الذي تصحبه " الباء " في مثل هذا التركيب لو قيل في نظيره : بدَّلْتُ زيداً بِعَمْروٍ ، فزيدٌ هو المأخوذ ، وعمرو المتروكُ ، وقد تقدَّمَ تحقيقُ هذا في البَقَرَةِ في موضعين :

أولهما : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ } [ البقرة : 59 ] .

والثاني : { وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله } [ البقرة : 211 ] .

ف " مَكَانَ " و " الحَسنَة " مفعولان إلاَّ أن أحدهُما وصل إليه الفعل بِنَفْسِهِ [ وهو " الحَسَنَةُ {[16577]} " ] ، والآخر بحذف حرف الجرِّ وهو " مكان " .

والثاني : أنَّهُ مَنْصُوبٌ على الظَّرْفِ ، والتَّقديرُ : " ثمَّ بَدَّلْنَا [ في ] مكان السَّيِّئَةِ الحسنةِ " إلا أنَّ هذا ينبغي أن يُردَّ ؛ لأن " بدَّل " لا بُدَّ له من مفعولين أحَدُهَمَا على إسقاط الباءِ .

والمراد بالحَسَنَةِ والسيِّئَةِ هاهنا : الشِّدَّةُ والرَّخَاءُ .

قال أهل اللُّغَةِ : " السَّيِّئَةُ : كلُّ ما يَسُوءُ صَاحِبَهُ ، والحسنَةُ : كل ما اسْتَحسَنَهُ الطَّبْعُ والعَقْلُ " .

قوله : " حَتَّى عَفَوا " " حتَّى " هنا غائيةٌ ، وتقدير مَنْ قدّرها ب " إلَى " فإنَّمَا يريدُ تَفْسِيرَ المعنى لا الإعرابَ ؛ لأن حتَّى الجارَّة لا تُبَاشِرُ إلاَّ المضارع المنصوب بإضمار " أنْ " ؛ لأنها في التَّقْديرِ داخلة على المصدر المُنْسَبِك منها ، ومن الفعل ، [ وأمّا الماضي ] فلا يطَّرِدُ حذف " أنْ " معه ، فلا يقدّر معه أنَّها حرف جرٍّ داخلة على أن المصدريَّة ، أي : حتَّى أن عفوا ، وهذا الذي ينبغي أن يحمل عليه قول أبي البقاءِ : " حتَّى عَفَوْا أي : إلى أن عفوا " .

ومعنى " عَفَوا " هنا كَثُروا من عَفَا الشعْر إذا كَثُر ، ومنه : " وأعْفُوا اللِّحَى {[16578]} " يُقَالُ : عَفَاه ، وأعْفَاه ثلاثياً ورباعيّاً ؛ قال زهيرٌ : [ الوافر ]

أذَلِكَ أمْ أقَبُّ البَطْنِ جَأبٌ *** عَلَيْهِ مِنْ عَقِيقَتِهِ عَفِاءُ{[16579]}

وفي الحديث : " إذَا عَفَا الوَبَرُ وبَرَأ الدُّبُرُ فَقَدْ حلَّت العُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرَ " ؛ وأنشد الزَّمَخْشريُّ على ذلك قولَ الحُطَيْئَةِ : [ الطويل ]

بِمُسْتأسِدِ القُرْبَانِ عَافٍ نَبَاتُهُ *** . . . {[16580]}

وقول لَبِيد : [ الوافر ]

ولَكِنَّا نُعِضُّ السَّيْفَ مِنْهَا *** بأسْوُقِ عَافِيَاتِ الشَّحْمِ كُومِ{[16581]}

وتقدَّم تحقيقُ هذه المادّة في البقرة{[16582]} .

فصل في المراد من الآية

ومعنى الآية أنَّ الله - تعالى - أبدلهم مكان الباساء والضرَّاء الحسنة ، وهي النِّعمَةُ والسَّعَةُ والخَصْبُ والصِّحَّةُ .

" حتى عفوا " كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم ، وقالوا من غرتهم وغفلتهم : { قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضراء والسراء } ، أي : هكذا كانت عادة الدَّهر قديماً لنا ولآبائنا ، ولم يكن ذلك عقوبةً من اللَّهِ ، فكُونُوا على ما أنتم عليه كما كان آباؤُكم ، فإنَّهُم لم يتركوا دِينَهُم لما أصابهم من الضَّرَّاءِ .

قوله : " فَأخَذْنَاهُمْ " .

قال أبُو البقاءِ{[16583]} : " هو عطفٌ على " عَفَوْا " . يريدُ : وما عطف عليه أيضاً ، أعني أنَّ الأخذ ليس متسبباً عن العَفَاءِ فقط ، بل عليه وعلى قولهم تلك المَقَالةِ الجاهليَّةِ ؛ لأنَّ المعنى ليس أنَّهُ لمُجرَّدِ كثْرَتِهِمْ ، ونموِّ أموالِهِمْ أخذهم بغتة بل بمجموع الأمْرَيْنِ ، بل الظَّاهِرُ أنَّهُ بقولهم ذلك فقط .

و " بَغْتَةً " إمَّا حالاً أو مَصْدراً ، والبَغْتَةُ الفُجَاءَة ، { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } حال أيضاً وهي في قوَّةِ المُؤكِّدَةِ ؛ لأنَّ " بَغْتَةً " تفيدُ إفادتها ، سواء أعْرَبْنَا " بغتة " حالاً أم مَصْدراً .

واعلم أنَّ الحكمة في حكاية هذا المعنى ليعتبر من سمع هذه القصَّة .


[16576]:سقط من أ.
[16577]:سقط من أ.
[16578]:أخرج البخاري (10/351) كتاب اللباس: باب إعفاء اللحى حديث (5893) ومسلم 1/222 كتاب الطهارة: باب خصال الفطرة حديث (52/259) من حديث ابن عمر.
[16579]:البيت ينظر: ديوانه 65 وشرح الديوان لثعلب 59، واللسان (عفا) الدر المصون 3/307 ويروى صدره: "أدلك أم شتيم الوجه جأب".
[16580]:البيت ينظر: ديوانه 186، اللسان (عطل) (عفا)، الدر المصون 3/308.
[16581]:البيت ينظر: ديوانه 19، الدر المصون 3/308.
[16582]:ينظر: تفسير الآية 52 من سورة البقرة.
[16583]:ينظر: الإملاء 1/280.