المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٖ مِّنۡهُمۡ فَٱسۡتَـٔۡذَنُوكَ لِلۡخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخۡرُجُواْ مَعِيَ أَبَدٗا وَلَن تُقَٰتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّاۖ إِنَّكُمۡ رَضِيتُم بِٱلۡقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٖ فَٱقۡعُدُواْ مَعَ ٱلۡخَٰلِفِينَ} (83)

وقوله : { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم } الآية ، { رجع } يستوي مجاوزه وغير مجاوزه ، وقوله تعالى : { إن } مبينة أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يعلم بمستقبلات أمره من أجل وسواه{[5816]} وأيضاً فيحتمل أن يموتوا هم قبل رجوعه وأمر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ، بأن يقول لهم { لن تخرجوا معي } ، هو عقوبة لهم وإظهار لدناءة منزلتهم وسوء حالهم ، وهذا هو المقصود في قصة ثعلبة بن حاطب التي تقدمت في الامتناع من أخذ صدقته ، ولا خزي أعظم من أن يكون إنسان قد رفضه الشرع ورده كالجمل الأجرب ، وقوله : { إلى طائفة } يقتضي عندي أن المراد رؤوسهم والمتبوعون ، وعليها وقع التشديد بأنها لا تخرج ولا تقاتل عدواً ، وكرر معنى قتال العدو لأنه عظم الجهاد وموضع بارقة السيوف التي تحتها الجنة ، ولولا تخصيص الطائفة لكان الكلام «فإن رجعك الله إليهم » ، ويشبه أن تكون هذه الطائفة قد ختم عليها بالموافاة على النفاق ، وعينوا للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإلا فكيف يترتب ألا يصلي على موتاهم إن لم يعينهم الله ، وقوله : { وماتوا وهم فاسقون } ونص في موافاتهم ، ومما يؤيد هذا ما روي أن ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ، عينهم لحذيفة بن اليمان وكانت الصحابة إذا رأوا حذيفة تأخر عن الصلاة على جنازة رجل تأخروا هم عنها .

وروي عن حذيفة أنه قال يوماً : بقي من المنافقين كذا وكذا ، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنشدك الله أنا منهم ؟ فقال لا ، والله ، لا أمنه منها أحداً بعدك ، وقرأ جمهور الناس «معي » بسكون الياء في الموضعين ، وقرأ عاصم فيما قال المفضل «معيَ » بحركة الياء في الموضعين ، وقوله { أول } هو الإضافة إلى وقت الاستئذان .

و «الخالفون » جميع من تخلف من نساء وصبيان وأهل عذر غلب المذكر فجمع بالياء والنون وإن كان ثم نساء ، وهو جمع خالف ، وقال قتادة «الخالفون » النساء ، وهذا مردود ، وقال ابن عباس : هم الرجال ، وقال الطبري : يحتمل قوله { مع الخالفين } أن يريد مع الفاسدين ، فيكون ذلك مأخوذاً من خلف الشيء إذا فسد ومنه خلوف فم الصائم .

قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل مقحم والأول أفصح وأجرى على اللفظة ، وقرأ مالك بن دينار وعكرمة «مع الخلفين » وهو مقصور من الخالفين ، كما قال : عرداً وبرداً عارداً وبارداً{[5817]} ، وكما قال الآخر : [ الرجز ]

مثل النقا لبده برد الظلال*** يريد الظلال{[5818]} .


[5816]:- جاء ذلك صريحا في قوله تعالى: {قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم}، {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء}.
[5817]:- يشير بهذا إلى أبيات سبق أن تكلم عليها عند تفسير قوله تعالى في الآية (145) من سورة (آل عمران): {ومن يرد ثواب الدنيا ونؤته منها}. وهذه هي الأبيات: أصبح قلبي صردا لا يشتهي أن يردا إلا عردا عــردا وصليانا بـــردا وعنكثا ملتبــدا يريد: عاردا وباردا فحذف للضرورة، والعرادة: شجر صلبة العود، وجمعها: عراد، وعراد عرد على المبالغة.
[5818]:- النّقا: القطعة من الرمل تنقاد محدودبة، وفي الحديث: (خلق الله آدم من نقا ضريّة)، أي من رملها (وضرية موضع معروف)، وحكى يعقوب في تثنيته نقيان ونقوان، والجمع نقيان وأنقاء، وهذه نقاة من الرمل. ويقال: لبد بالمكان: أقام به ولزق، فكأن برد الظلال ألصق تراب الرمل بالأرض وثبته عليها.