قوله تعالى : { وظللنا عليكم الغمام } . في التيه يقيكم حر الشمس ، والغمام من الغم وأصله التغطية والستر سمي السحاب غماماً لأنه يغطي وجه الشمس وذلك أنه لم يكن لهم في التيه كن يسترهم فشكوا إلى موسى فأرسل الله تعالى غماماً أبيض رقيقاً أطيب من غمام المطر ، وجعل لهم عموداً من نور يضيء لهم الليل إذا لم يكن لهم قمر .
قوله تعالى : { وأنزلنا عليكم المن والسلوى } . أي في التيه ، الأكثرون على أن المن هو الترنجبين ، وقال مجاهد : هو شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار طعمه كالشهد ، وقال وهب : هو الخبز الرقاق ، قال الزجاج : جملة المن ما يمن الله به من غير تعب .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو نعيم ، أنا أبو سفيان ، عن عبد الملك هو ابن عمير ، عن عمرو بن حريث ، عن سعيد بن زيد قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين " .
قالوا فكان المن كل ليلة يقع على أشجارهم مثل الثلج ، لكل إنسان منهم صاع ، فقالوا : يا موسى قتلنا هذا المن بحلاوته فادع لنا ربك أن يطعمنا اللحم . فأنزل الله تعالى عليهم السلوى وهو طائر يشبه السماني ، وقيل : هو السماني بعينه ، بعث الله سحابة فمطرت السماني في عرض ميل وطول رمح في السماء ، بعضه على بعض .
وقال المؤرخ : السلوى : العسل ، فكان الله ينزل عليهم المن والسلوى كل صباح من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، فيأخذ كل واحد منهم ما يكفيه يوماً وليلة وإذا كان يوم الجمعة أخذ كل واحد منهم ما يكفيه ليومين لأنه لم يكن ينزل يوم السبت .
قوله تعالى : { كلوا } . أي : وقلنا لهم : كلوا .
قوله تعالى : { من طيبات } . حلالات .
قوله تعالى : { ما رزقناكم } . ولا تدخروا لغد ، ففعلوا ، فقطع الله ذلك عنهم ، ودود وفسد ما ادخروا ، فقال الله تعالى : { وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } . أي وما بخسوا بحقنا ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون باستيجابهم عذابي ، وقطع مادة الرزق الذي كان ينزل عليهم بلا مؤنة في الدنيا ولا حساب في العقبى . أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ، أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ، أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، أنا أحمد بن يوسف السلمي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر عن همام بن منبه ، أنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ، ولم يختز اللحم ، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر " .
عطف { وظللنا } على { بعثناكم } [ البقرة : 56 ] . وتعقيب ذكر الوحشة بذكر جائزة شأن الرحيم في تربية عبده ، والظاهر أن تظليل الغمام ونزول المن والسلوى كان قبل سؤالهم رؤية الله جهرة لأن التوراة ذكرت نزول المن والسلوى حين دخولهم في برية سين بين إيليم وسينا في اليوم الثاني عشر من الشهر الثاني من خروجهم من مصر حين اشتاقوا أكل الخبز واللحم لأنهم في رحلتهم ما كانوا يطبخون بل الظاهر أنهم كانوا يقتاتون من ألبان مواشيهم التي أخرجوها معهم ومما تنبته الأرض . وأما تظليلهم بالغمام فالظاهر أنه وقع بعد أن سألوا رؤية الله لأن تظليل الغمام وقع بعد أن نصب لهم موسى خيمة الاجتماع محل القرابين ومحل مناجاة موسى وقبلة الداعين من بني إسرائيل في برية سينا فلما تمت الخيمة سنة اثنتين من خروجهم من مصر غطت سحابة خيمة الشهادة ومتى ارتفعت السحابة عن الخيمة فذلك إذن لبني إسرائيل بالرحيل فإذا حلت السحابة حلوا إلخ ، كذا تقول كتبهم{[127]} .
فلما سأل بنو إسرائيل الخبز واللحم كان المن ينزل عليهم في الصباح والسلوى تسقط عليهم في المساء بمقدار ما يكفي جميعهم ليومه أو ليلته إلا يوم الجمعة فينزل عليهم منهما ضعف الكمية لأن في السبت انقطاع النزول .
والمن مادة صمغية جوية ينزل على شجر البادية شبه الدقيق المبلول ، فيه حلاوة إلى الحموضة ولونه إلى الصفرة ويكثر بوادي تركستان وقد ينزل بقلة غيرها ولم يكن يعرف قبل في برية سينا . وقد وصفته التوراة{[128]} بأنه دقيق مثل القشور يسقط ندى كالجليد على الأرض وهو مثل بزر الكزبرة أبيض وطعمه كرقاق بعسل وسمته بنو إسرائيل منا ، وقد أمروا أن لا يبقوا منه للصباح لأنه يتولد فيه دود وأن يلتقطوه قبل أن تحمى الشمس لأنها تذيبه فكانوا إذا التقطوه طحنوه بالرحا أو دقوه بالهاون وطبخوه في القدور وعملوه ملات وكان طعمه كطعم قطائف بزيت{[129]} وأنهم أكلوه أربعين سنة حتى جاءوا إلى طرف أرض كنعان يريد إلى حبرون .
وأما السلوى فهي اسم جنس جمعي واحدته سلواة وقيل : لا واحد له وقيل : واحده وجمعه سواء ، وهو طائر بري لذيذ اللحم سهل الصيد كانت تسوقه لهم ريح الجنوب كل مساء فيمسكونه قبضاً ويسمى هذا الطائر أيضاً السمانى بضم السين وفتح الميم مخففة بعدها ألف فنون مقصور كحبارى ، وهو أيضاً اسم يقع للواحد والجمع ، وقيل : هو الجمع وأما الفرد فهو سماناة .
وقوله : كلوا من طيبات ما رزقناكم مقول قول محذوف لأن المخاطبين حين نزول القرآن لم يؤمروا بذلك فدل على أنه من بقية الخبر عن أسلافهم .
وقوله : { وما ظلمونا } قدره صاحب « الكشاف » معطوفاً على مقدر أي فظلموا وقرره شارحوه بأن ( ما ظلمونا ) نفي لظلم متعلق بمفعول معين وهو ضمير الجلالة وهذا النفي يفيد في المقام الخطابي أن هنالك ظلماً متعلقاً بغير هذا المنصوب إذ لو لم يكن الظلم واقعاً لنفى مطلقاً بأن يقال : وما ظلموا وليس المعنى عليه ، وأنه إنما قدر في « الكشاف » الفعل المحذوف مقترناً بالفاء لأن الفاء في عطف الجمل تفيد مع الترتيب والتعقيب معنى السببية غالباً ، فتكون الجملة المعطوفة متسببة عن الجملة المعطوف عليها فشبه وقوع ظلمهم حين كفروا النعمة عقب الإحسان بترتب المسبب على السبب في الحصول بلا ريثٍ وبدون مراقبة ذلك الإحسان حتى كأنهم يأتون بالظلم جزاء للنعمة ، ورمز إلى لفظ المشبه به برديفه وهو فاء السببية وقرينة ذلك ما يعلمه السامع من أن الظلم لا يصلح لأن يكون مسبباً عن الإنعام على حد قولك أحسنتُ إلى فلان فأساء إليَّ وقوله تعالى : { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } [ الواقعة : 82 ] أي تجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون فالفاء مجاز لغير الترتب على أسلوب قولك : أنعمَتُ عليه فكفر . ولك أن تقول إن أصل معنى الفاء العاطفة الترتيب والتعقيب لا غير وهو المعنى الملازم لها في جميع مواقع استعمالها فإن الاطراد من علامات الحقيقة . وأما الترتب أي السببية فأمر عارض لها فهو من المجاز أو من مستتبعات التراكيب ألا ترى أنه يوجد تارة ويتخلف أخرى فإنه مفقود في عطف المفردات نحو جاء زيد فعمرو وفي كثير من عطف الجمل نحو قوله تعالى : { لقد كنتَ في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك } [ ق : 22 ] فلذلك كان معنى السببية حيثما استفيد محتاجاً إلى القرائن فإن لم تتطلب له علاقة قلت هو من مستتبعات تراكيب بقرينة المقام وإن تطلبت له علاقة وهي لا تعوزك قلت هو مجاز لأن أكثر الأمور الحاصلة عقب غيرها يكون موجب التعقيب فيها هو السببية ولو عرفا ولو ادعاء فليس خروج الفاء عن الترتب هو المجاز بل الأمر بالعكس .
ومما يدل على أن حقيقة الفاء العاطفة هو الترتيب والتعقيب فقط أن بعض البيانيين جعلوا قوله تعالى : { فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًّا } [ القصص : 8 ] اللامَ فيه مستعارة لمعنى فاء التعقيب أي فكان لهم عدوًّا فجعلوا الفاء حقيقة في التعقيب ولو كانت للترتيب لساوت اللام فلم تستقم الاستعارة فيكون الوجه الحامل للزمخشري على تقدير المحذوف مقترناً بالفاء هو أنه رأى عطف الظلم على { وظللنا عليكم الغمام } وما بعده بالواو ولا يحسن لعدم الجهة الجامعة بين الامتنان والذم والمناسبةُ شرط في قبول الوصل بالواو بخلاف العطف بالفاء ، فتعين إما تقدير ظلموا مستأنفاً بدون عطف وظاهر أنه ليس هنالك معنى على الاستئناف وإما ربط ظلموا بعاطف سوى الواو وليس يصلح هنا غير الفاء لأن المعطوف حصل عقب المعطوف عليه فكان ذلك التعاقب في الخارج مغنياً عن الجهة الجامعة ولذلك كانت الفاء لا تستدعي قوة مناسبة كمناسبة الواو ولكن مناسبة في الخيال فقط وقد وجدت هنا لأن كون المعطوف حصل في الخارج عقب المعطوف عليه مما يجعله حاضراً في خيال الذي يتكلم عن المعطوف عليه ، وأما قبح نحو قولك جاء زيد فصاح الديك فلقلة جدوى هذا الخبر ألا تراه يصير حسناً لو أردت بقولك فصاح الديك معنى التوقيت بالفجر فبهذا ظهر أنه لم يكن طريق لربط الظلم المقدر بالفعلين قبله إلا الفاء .
وفي ذلك الإخبار والربط والتصدي لبيانه مع غرابة هذا التعقيب تعريض بمذمتهم إذ قابلوا الإحسان بالكفران وفيه تعريض بغباوتهم إذ صدَفوا عن الشكر كأنهم ينكون بالمنعم وهم إنما يوقعون النكاية بأنفسهم ، هذا تفصيل ما يقال على تقدير صاحب « الكشاف » .
والذي يظهر لي أن لا حاجة إلى التقدير وأن جملة { وما ظلمونا } عطف على ما قبلها لأنها مثلها في أنها من أحوال بني إسرائيل ومثار ذكر هذه الجملة هو ما تضمنته بعض الجمل التي سبقت من أن ظلماً قد حصل منهم من قوله : { ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون } [ البقرة : 51 ] وقوله : { إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل } [ البقرة : 55 ] وما تضمنه قوله : { فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون } [ البقرة : 56 ] الدال على أن ذلك عذاب جروه إلى أنفسهم فأتى بهذه الجملة كالفذلكة لما تضمنته الجمل السابقة نظير قوله : { وما يخادعون إلا أنفسهم } [ البقرة : 8 ] عقب قوله : { يخادعون الله والذين آمنوا } [ البقرة : 8 ] ونظير قوله : { وظلموا أنفسهم } [ سبأ : 19 ] بعد الكلام السابق وهو قوله : { وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة } [ سبأ : 18 ] الآية .
وغير الأسلوب في هذه الجملة إذ انتقل من خطاب بني إسرائيل إلى الحديث عنهم بضمير الغيبة لقصد الاتعاظ بحالهم وتعريضاً بأنهم متمادون على غيهم وليسوا مستفيقين من ضلالهم فهم بحيث لا يقرون بأنهم ظلموا أنفسهم . وهذا الظلم الذي قدر في نظم الآية هو ضجرهم من مداومة أكل المن والسلوى الذي سيأتي ذكره بقوله تعالى : { وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد } [ البقرة : 62 ] الآية فكان قوله : { وما ظلمونا } تمهيداً له وتعجيلاً بتسجيل قلة شكرهم على نعم الله وعنايته بهم إذ كانت شكيمتهم لم تلينها الزواجر ولا المكارم .
وقوله : { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } قدم فيه المفعول للقصر وقد حصل القصر أولاً بمجرد الجمع بين النفي والإثبات ثم أكد بالتقديم لأن حالهم كحال من ينكي غيره كما قيل : يفعل الجاهل بنفسه ما يفعل العدو بعدوه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَظَلّلْنا عَلَيْكُمْ": عطف على قوله: "ثُمّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ "فتأويل الآية: ثم بعثناكم من بعد موتكم، وظللنا عليكم الغمام، وعدد عليهم سائر ما أنعم به عليهم لعلهم يشكرون. والغمام جمع غمامة كما السحاب جمع سحابة، والغمام هو ما غمّ السماء فألبسها من سحاب وقتام وغير ذلك مما يسترها عن أعين الناظرين، وكل مغطّى فإن العرب تسميه مغموما...
"وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ المَنّ".
اختلف أهل التأويل في صفة المنّ.
فقال بعضهم: المن: صمغة... كان المنّ ينزل عليهم مثل الثلج.
وقال آخرون: شراب كان ينزل عليهم مثل العسل، فيمزجونه بالماء، ثم يشربونه.
وقال آخرون: المنّ: عسل كان ينزل لهم من السماء.
وقال آخرون: المنّ: خبز الرقاق.
وقال آخرون: المنّ هو الذي يسقط على الشجر الذي تأكله الناس... قال ابن عباس: كان المنّ ينزل على شجرهم فيغدون عليه فيأكلون منه ما شاءوا.
وتظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الكمأةُ مِنَ المَنّ، وماؤها شِفاءٌ للْعَيْنِ».
وقال بعضهم: المنّ: شراب حلو كانوا يطبخونه فيشربونه.
"وَالسّلْوَى": والسلوى: اسم طائر يشبه السمانَى
فإن قال قائل: وما سبب تظليل الله جل ثناؤه الغمام وإنزاله المنّ والسلوى على هؤلاء القوم؟ قيل: قد اختلف أهل العلم في ذلك، ونحن ذاكرون ما حضرنا منه.
فحدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي: لما تاب الله على قوم موسى وأحيا السبعين الذين اختارهم موسى بعد ما أماتهم، أمرهم الله بالمسير إلى أريحا، وهي أرض بيت المقدس. فساروا حتى إذا كانوا قريبا منها بعث موسى اثني عشر نقيبا. وكان من أمرهم وأمر الجبارين، وأمر قوم موسى ما قد قصّ الله في كتابه، فقال قوم موسى لموسى: "اذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنَا قَاعِدُونَ "فغضب موسى، فدعا عليهم قال: "رَبّ إني لا أمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي وأخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ القَوْمِ الفاسِقِينَ" فكانت عجلة من موسى عجلها فقال الله تعالى: "إِنّهَا مُحَرّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَة يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ". فلما ضرب عليهم التيه ندم موسى، وأتاه قومه الذين كانوا معه يطيعونه، فقالوا له: ما صنعت بنا يا موسى؟ فلما ندم أوحى الله إليه أنْ لا تأسَ على القَوْمِ الفاسقِينَ أي لا تحزن على القوم الذين سميتهم فاسقين. فلم يحزن. فقالوا: يا موسى كيف لنا بماء ههنا، أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المنّ، فكان يسقط على شجر الترنجبين، والسلوى: وهو طير يشبه السمانى... فقالوا: هذا الطعام، فأين الشراب؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، فشرب كل سبط من عين، فقالوا: هذا الطعام والشراب، فأين الظلّ؟ فظلل عليهم الغمام...
"كُلُوا مِنْ طَيّبات ما رزَقْنَاكُمْ": وهذا مما استغني بدلالة ظاهره على ما ترك منه، وذلك أن تأويل الآية: "وظللنا عليكم الغمام، وأنزلنا عليكم المن والسلوى"، وقلنا لكم: كلوا من طيبات ما رزقناكم. فترك ذكر قوله: «وقلنا لكم...» لما بينا من دلالة الظاهر في الخطاب عليه. وعنى جل ذكره بقوله: "كُلُوا مِنْ طَيّباتِ مَا رزَقْنَاكُمْ" كلوا من مشتهيات رزقنا الذي رزقناكموه. وقد قيل عنى بقوله: "مِنْ طَيبَاتِ ما رَزَقْنَاكُمْ" من حلاله الذي أبحناه لكم، فجعلناه لكم رزقا. والأول من القولين أولى بالتأويل لأنه وصف ما كان القوم فيه من هنيء العيش الذي أعطاهم، فوصف ذلك بالطيب الذي هو بمعنى اللذّة أحرى من وصفه بأنه حلال مباح. و«ما» التي مع «رزقناكم» بمعنى «الذي» كأنه قيل: كلوا من طيبات الرزق الذي رزقناكموه.
"ومَا ظَلَمُونا وَلَكِنْ كانُوا أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ":
وهذا أيضا من الذي استغني بدلالة ظاهره على ما ترك منه. وذلك أن معنى الكلام: كلوا من طيبات ما رزقناكم، فخالفوا ما أمرناهم به، وعصوا ربهم ثم رسولنا إليهم، وما ظلمونا. فاكتفى بما ظهر عما ترك. وقوله: "وَما ظَلَمُونَا" يقول: وما ظلمونا بفعلهم ذلك ومعصيتهم. "وَلَكِنْ كانُوا أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ". ويعني بقوله: "وَمَا ظَلَمُونَا": وما وضعوا فعلهم ذلك وعصيانهم إيانا موضع مضرّة علينا ومنقصة لنا، ولكنهم وضعوه من أنفسهم موضع مضرّة عليها ومنقصة لها... وقد دللنا فيما مضى على أن أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه بما فيه الكفاية، فأغنى ذلك عن إعادته. وكذلك ربنا جل ذكره لا تضرّه معصية عاص، ولا يتحيف خزائنه ظلم ظالم، ولا تنفعه طاعة مطيع، ولا يزيد في ملكه عدل عادل، بل نفسه يظلم الظالم، وحظها يبخس العاصي، وإياها ينفع المطيع، وحظها يصيب العادل.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم) يحتمل وجهين:
يحتمل ما لم يحل لهم الفضل على حاجتهم، فأباح لهم القدر الذي لهم إليه حاجة، وسماه طيبات.
ويحتمل أنه سماه طيبات لما لا يشوبه داء يؤذيهم ولا أذى يضر بهم، ليس كطعام الدنيا مما لا يسلم من ذلك، والله أعلم.
وقد قيل: الطيب هو المباح الذي يستطيبه الطبع، ويتلذذ به النفس...
(وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)... قد يحتمل وجها آخر؛ وهو النقصان كقوله: (كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا) [الكهف: 33] أي لم تنقص منه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَمَا ظَلَمُونَا} يعني فظلموا بأن كفروا هذه النعم، وما ظلمونا، فاختصر الكلام بحذفه لدلالة {وَمَا ظَلَمُونَا} عليه.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أمر إباحة وإرشاد وامتنان.
{وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57]، أي أمرناهم بالأكل مما رزقناهم وأن يعبدوا، كما قال: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} [سبأ: 15] فخالفوا وكفروا فظلموا أنفسهم، هذا مع ما شاهدوه من الآيات البينات والمعجزات القاطعات، وخوارق العادات، ومن هاهنا تتبين فضيلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، على سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم وثباتهم وعدم تعنتهم، كما كانوا معه في أسفاره وغزواته، منها عام تبوك، في ذلك القيظ والحر الشديد والجهد، لم يسألوا خرق عادة، ولا إيجاد أمر، مع أن ذلك كان سهلا على الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم، فجاء قدر مَبْرك الشاة، فدعا الله فيه، وأمرهم فملأوا كل وعاء معهم، وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله تعالى، فجاءت سحابة فأمطرتهم، فشربوا وسقوا الإبل وملأوا أسقيتهم. ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر. فهذا هو الأكمل في الاتباع: المشي مع قدر الله، مع متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أما النعمة الأولى فقوله تعالى {وظللنا عليكم الغمام} قال الأستاذ الإمام: هذه نعمة مستقلة متصلة بما قبلها في سياق الذكرى، منفصلة عنها في الوقوع، فإن التظليل استمر إلى دخولهم أرض الميعاد، ولولا أن سياق الله إليهم الغمام يظللهم في التيه لسعفتهم الشمس ولفحت وجوههم. وقال لا معنى لوصف الغمام بالرقيق كما قال المفسر (الجلال) وغيره، بل السياق يقتضي كثافته إذ لا يحصل الظل الظليل الذي يفيده حرف التظليل، إلا بسحاب كثيف بمنع حر الشمس ووهجها. وكذلك لا تتم النعمة التي بها المنة إلا بالكثيف وهو المنقول المعروف عند الإسرائيليين أنفسهم
وأما النعمة الثانية ففي قوله تعالى {وأنزلنا عليكم المن والسلوى} ما منح من الله تعالى يسمى إيجاده إنزالا ومنه {وأنزلنا الحديد} على أن المن ينزل كالندى وهو مادة لزجة حلوة تشبه العسل تقع على الحجر وورق الشجر مائعة ثم تجمد وتجف فيجمعها الناس، ومنها الترنجبين وبه فسر المن مفسرنا وغيره. وأما السلوى فقد فسروها بالسماني وهو الطائر المعروف فمعنى النزول يصح فيه على حقيقته أيضا. وظاهر أن قوله تعالى {كلوا من طيبات ما رزقناكم} مقدر فيه القول. وفي (سفر الخروج) أن بني إسرائيل أكلوا المن أربعين سنة وأن طعمه كالرقاق بالعسل؛ وكان لهم بدلا من الخبز وليس المراد أنه لم يكن لهم أكل سواه إلا السلوى فقد كان معهم المواشي ولكنهم كانوا محرومين من النبات والبقول كما يعلم مما يأتي.
وفي قوله تعالى {وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} تقرير لقاعدة مهمة وهي أن كل ما يطلبه الدين من العبد فهو لمنفعته، وكل ما ينهاه عنه فإنما يقصد به دفع الضرر عنه، ولن يبلغ أحد نفس الله فينفعه، ولن يبلغ أحد ضره فيضره، كما ثبت في الحديث القدسي. فكل عمل ابن آدم له أو عليه {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ثم ذكر نعمته عليكم في التيه والبرية الخالية من الظلال وسعة الأرزاق، فقال: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ} وهو اسم جامع لكل رزق حسن يحصل بلا تعب، ومنه الزنجبيل والكمأة والخبز وغير ذلك.
{وَالسَّلْوَى} طائر صغير يقال له السماني، طيب اللحم، فكان ينزل عليهم من المن والسلوى ما يكفيهم ويقيتهم {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي: رزقا لا يحصل نظيره لأهل المدن المترفهين، فلم يشكروا هذه النعمة، واستمروا على قساوة القلوب وكثرة الذنوب.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمن مادة صمغية جوية ينزل على شجر البادية شبه الدقيق المبلول، فيه حلاوة إلى الحموضة ولونه إلى الصفرة ويكثر بوادي تركستان وقد ينزل بقلة غيرها ولم يكن يعرف قبل في برية سينا. وقد وصفته التوراة بأنه دقيق مثل القشور يسقط ندى كالجليد على الأرض وهو مثل بزر الكزبرة أبيض وطعمه كرقاق بعسل وسمته بنو إسرائيل منا، وقد أمروا أن لا يبقوا منه للصباح لأنه يتولد فيه دود وأن يلتقطوه قبل أن تحمى الشمس لأنها تذيبه فكانوا إذا التقطوه طحنوه بالرحا أو دقوه بالهاون وطبخوه في القدور وعملوه ملات وكان طعمه كطعم قطائف بزيت وأنهم أكلوه أربعين سنة حتى جاءوا إلى طرف أرض كنعان يريد إلى حبرون...
وغير الأسلوب في هذه الجملة إذ انتقل من خطاب بني إسرائيل إلى الحديث عنهم بضمير الغيبة لقصد الاتعاظ بحالهم وتعريضاً بأنهم متمادون على غيهم وليسوا مستفيقين من ضلالهم فهم بحيث لا يقرون بأنهم ظلموا أنفسهم. وهذا الظلم الذي قدر في نظم الآية هو ضجرهم من مداومة أكل المن والسلوى الذي سيأتي ذكره بقوله تعالى: {وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد} [البقرة: 62] الآية فكان قوله: {وما ظلمونا} تمهيداً له وتعجيلاً بتسجيل قلة شكرهم على نعم الله وعنايته بهم إذ كانت شكيمتهم لم تلينها الزواجر ولا المكارم.
{ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} قدم فيه المفعول للقصر وقد حصل القصر أولاً بمجرد الجمع بين النفي والإثبات ثم أكد بالتقديم لأن حالهم كحال من ينكي غيره كما قيل: يفعل الجاهل بنفسه ما يفعل العدو بعدوه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الحياة الجديدة بعد التحرر: الأمة التي تتحرر بعد عصر من الذّل والاستضعاف والاستعباد، لا تستطيع أن تتخلى تماماً عن حالتها النفسية والثقافية الموروثة عن عصر الطاغوت، ولابدّ من فترة برزخية تمر بها كي تكون قادرة على إقامة حكم الله في الأرض، وفق معايير إلهية بعيدة عن مؤثرات عصر الطاغوت. وسواء امتدت هذه الفترة البرزخية أربعين عاماً كما حدث لبني إسرائيل، أو أقل أو أكثر، فهي فترة عقاب إلهي هدفها التزكية والإِصلاح والبناء لأنّ مجازاة الله ليست لها جنبة انتقامية. ولابدّ أن يبقى بنو إسرائيل فترة أربعين عاماً من «التيه» في الصحراء ليتربّى جيل جديد حامل لصفات توحيدية... ومؤهل لإقامة الحكم الإِلهي في الأرض المقدسة.
لماذا قالت الآية «أَنْزَلْنَا»؟
عبرت الآية الكريمة عن نعمة تقديم المن والسلوى بالإِنزال، وليس الإِنزال دائماً إرسال الشيء من مكان عال، كقوله تعالى: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانَيِةَ أَزْوَاج)
(الزمر، 6). [ف] واضح أن الأنعام لم تهبط من السماء، من هنا فالإِنزال في مثل هذه المواضع: إمّا أن يكون «نزولا مقامياً» أي نزولا من مقام أسمى إلى مقام أدنى. أو أن يكون من «الإِنزال» بمعنى الضيافة، يقال أنزلت فلاناً: أي أضفته، والنزل (على وزن رُسُل) ما يُعدّ للنازل من الزاد، ومنه قوله تعالى: (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيم)
(الواقعة، 93) و قوله سبحانه: (خَالِدينَ فِيهَا نُزُلا مِنْ عِنْدِ الله) (آل عمران، 198). وتعبير «الإِنزال» للمنّ والسلوى، قد يشير إلى أن بني إسرائيل كانوا ضيوف الله في الأرض، فاستضافهم بالمن والسلوى. ويحتمل أن يكون الإِنزال بمعنى الهبوط من الأعلى لأن النعم المذكورة وخاصة (السلوى) تهبط إلى الأرض من الأعلى.