البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَظَلَّلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡغَمَامَ وَأَنزَلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ} (57)

ظلل : فعل ، وهو مشتق من الظل ، والظل أصله المنفعة ، والسحابة ظلة لما يحصل تحتها من الظل ، ومنه قيل : السلطان ظلّ الله في الأرض ، قال الشاعر :

فلو كنت مولى الظل أو في ظلاله *** ظلمت ولكن لا يدي لك بالظلم

الغمام : اسم جنس بينه وبين مفرده هاء التأنيث ، تقول : غمامة وغمام ، نحو حمامة وحمام ، وهو السحاب .

وقيل : ما ابيض من السحاب ، وقال مجاهد : هو أبرد من السحاب وأرق ، وسمي غماماً لأنه يغم وجه السماء : أي يستره ، ومنه : الغم والغمم والأغم والغمة والغمى والغماء ، وغمّ الهلال : ستر ، والنبت الغميم : هو الذي يستر ما يسامته من وجه الأرض .

المنّ : مصدر مننت ، أي قطعت ، والمن : الإحسان ، والمن : صمغة تنزل على الشجر حلوة ، وفي المراد به في الآية أقوال ستأتي ، إن شاء الله تعالى .

السلوى : اسم جنس ، واحدها سلواة ، قاله الخليل ، والألف فيها للإلحاق لا للتأنيث نحو : علقى وعلقاة ، إذ لو كانت للتأنيث لما أنث بالهاء ، قال الشاعر :

وإني لتعروني لذكراك سلوة *** كما انتفض السلواة من بلل القطر

وقال الكسائي : السلوى واحدة ، وجمعها سلاوي .

وقال الأخفش : جمعه وواحده بلفظ واحد .

وقيل : جمع لا واحد له من لفظه .

وقال مؤرخ السدوسي : السلوى هو العسل بلغة كنانة ، قال الشاعر :

وقاسمها بالله جهداً لأنتم *** ألذ من السلوى إذا ما نشورها

وقال غيره : هو طائر .

قال ابن عطية : وقد غلط الهذلي في قوله :

ألذ من السلوى إذا ما نشورها***

فظن السلوى العسل .

وعن هذا جوابان يبينان أن هذا ليس غلطاً : أحدهما : ما نقلناه عن مؤرج من كونه العسل بلغة كنانة ، والثاني : أنه تجوز في قوله : نشورها لأجل القافية ، فعبر عن الأكل بالشور ، على سبيل المجاز ، قالوا : واشتقاق السلوى من السلوة ، لأنه لطيبه يسلي عن غيره .

الطيب : فيعل من طاب يطيب ، وهو اللذيذ ، وتقدم الكلام في اختصاص هذا الوزن بالمعتل ، إلا ما شذ ، وفي تخفيف هذا النوع وبالمخفف منه سميت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم طيبة .

{ وظللنا عليكم الغمام } الغمام : مفعول على إسقاط حرف الجرّ ، أي بالغمام ، كما تقول : ظللت على فلان بالرداء ، أو مفعول به لا على إسقاط الحرف ، ويكون المعنى جعلناه عليكم ظللاً .

فعلى هذا الوجه الثاني يكون فعل فيه ، يجعل الشيء بمعنى ما صيغ منه كقولهم : عدّلت زيداً ، أي جعلته عدلاً ، فكذلك هذا معناه : جعلنا الغمام عليكم ظلة ، وعلى الوجه الأول تكون فعل فيه بمعنى أفعل ، فيكون التضعيف أصله للتعدية ، ثم ضمن معنى فعل يعدى بعلى ، فكان الأصل : وظللناكم ، أي أظللناكم بالغمام ، نحو ما ورد في الحديث : « سبعة يظلهم الله في ظله » ، ثم ضمن ظلل معنى كلل أو شبهة مما يمكن تعديته بعلى ، فعداه بعلى .

وقد تقدم ذكر معاني فعل ، وليس المعنى على ما يقتضيه ظاهر اللفظ ، إذ ظاهره يقتضي أن الغمام ظلل علينا ، فيكون قد جعل على الغمام شيء يكون ظلة للغمام ، وليس كذلك ، بل المعنى ، والله أعلم ، ما ذكره المفسرون .

وقد تقدّم تفسير الغمام ، وقيل : إنه الغمام الذي أتت فيه الملائكة يوم بدر ، وهو الذي تأتي فيه ملائكة الرحمن ، وهو المشار إليه بقوله : { في ظلل من الغمام والملائكة } وليس بغمام حقيقة ، وإنما سمي غماماً لكونه يشبه الغمام .

وقيل : الذين ظلّل عليهم الغمام بعض بني إسرائيل ، وكان الله قد أجرى العادة في بني إسرائيل أن من عبد الله ثلاثين سنة لا يحدث فيها ذنباً أظلّته غمامة .

وحكي أن شخصاً عبد ثلاثين سنة فلم تظله غمامة ، فجاء إلى أصحاب الغمائم فذكر لهم ذلك فقالوا : لعلك أحدثت ذنباً ، فقال : لا أعلم شيئاً إلا أني رفعت طرفي إلى السماء وأعدته بغير فكر ، فقالوا له : ذلك ذنبك ، وكانت فيهم جماعة يسمون أصحاب الغمائم ، فامتنّ الله عليهم بكونهم فيهم من له هذه الكرامة الظاهرة الباهرة .

والمكان الذي أظلتهم فيه الغمامة كان في التيه بين الشام ومصر لما شكوا حر الشمس ، وسيأتي بيان ذلك في قصتهم .

وقيل : أرض بيضاء عفراء ليس فيها ماء ولا ظل ، وقعوا فيها حين خرجوا من البحر ، فأظلهم الله بالغمام ، ووقاهم حرّ الشمس .

{ وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى } المنّ : اسم جنس لا واحد له من لفظه .

وفي المن الذي أنزله الله على بني إسرائيل أقوال : ما يسقط على الشجر أحلى من الشهد وأبيض من الثلج ، وهو قول ابن عباس والشعبي ، أو صمغة طيبة حلوة ، وهو قول مجاهد ؛ أو شراب كان ينزل عليهم يشربونه بعد مزجه بالماء ، وهو قول الرّبيع أبن أنس وأبي العالية ؛ أو عسل كان ينزل عليهم ، وهو قول ابن زيد ؛ أو الرقاق المتخذ من الذرة أو من النقي ، وهو قول وهب ؛ أو الزنجبيل ، وهو قول السدّي ، أو الترنجبين ، وعليه أكثر المفسرين ؛ أو عسل حامض ، قاله عمرو بن عيسى ؛ أو جميع ما منّ الله به عليهم في التيه وجاءهم عفواً من غير تعب ، قاله الزّجاج ، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم : « الكمأة من المنّ الذي منّ الله به على بني إسرائيل » وفي رواية : على موسى .

وفي السلوى الذي أنزله الله على بني إسرائيل أقوال : طائر يشبه السماني ، أو هو السماني نفسه ، أو طيور حمر بعث الله بها سحابة فمطرت في عرض ميل وطول رمح في السماء بعضه على بعض ، قاله أبو العالية ومقاتل ؛ أو طير يكون بالهند أكبر من العصفور ، قاله عكرمة ؛ أو طير سمين مثل الحمام ؛ أو العسل بلغة كنانة ، وكانت تأتيهم السلوى من جهة السماء ، فيختارون منها السمين ويتركون الهزيل ؛ وقيل : كانت ريح الجنوب تسوقها إليهم فيختارون منها حاجتهم ويذهب الباقي .

وقيل : كانت تنزل على الشجر فينطبخ نصفها وينشوي نصفها .

وكان المنّ ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، والسلوى بكرة وعشياً ، وقيل : دائماً ، وقيل : كلما أحبوا .

وقد ذكر المفسرون حكايات في التظليل ونزول المنّ والسلوى ، وتظافرت أقاويلهم أن ذلك كان في فحص التيه ، وستأتي قصته في سورة المائدة ، إن شاء الله تعالى ، وأنهم قالوا : من لنا من حراك الشمس ؟ فظلل عليهم الغمام ، وقالوا : من لنا بالطعام ؟ فأنزل الله عليهم المن والسلوى ، وقالوا : من لنا بالماء ؟ فأمر الله موسى بضرب الحجر ، وهذه دل عليها القرآن .

وزيد في تلك الحكايات أنهم قالوا : بم نستصبح ؟ فضرب لهم عمود من نور في وسط محلتهم ، وقيل : من نار ، وقالوا : من لنا باللباس ؟ فأعطوا أن لا يبلى لهم ثوب ، ولا يخلق ، ولا يدرن ، وأن تنمو صغارها حسب نمو الصبيان .

{ كلوا } : أمر إباحة وإذن كقوله : { فاصطادوا } { فانتشروا في الأرض } وذلك على قول من قال : إن الأصل في الأشياء الحظر ، أو دوموا على الأكل على قول من قال الأصل فيها الإباحة ، وههنا قول محذوف ، أي وقلنا : كلوا ، والقول يحذف كثيراً ويبقى المقول ، وذلك لفهم المعنى ، ومنه : أكفرتم ؟ أي فيقال : أكفرتم ؟ وحذف المقول وإبقاء القول قليل ، وذلك أيضاً لفهم المعنى ، قال الشاعر :

لنحن الألى قلتم فأنى ملئتم *** برؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا

التقدير : قلتم نقاتلهم .

{ من طيبات } : من : للتبعيض لأن المن والسلوى بعض الطيبات ، وأبعد من ذهب إلى أنها زائدة ، ولا يتخرج ذلك إلا على قول الأخفش ، وأبعد من هذا قول من زعم أنها للجنس ، لأن التي للجنس في إثباتها خلاف ، ولا بد أن يكون قبلها ما يصلح أن يقدر بعده موصول يكون صفة له .

وقول من زعم أنها للبدل ، إذ هو معنى مختلف في إثباته ، ولم يدع إليه هنا ما يرجح ذلك .

والطيبات هنا قيل : الحلال ، وقيل : اللذيذ المشتهى .

ومن زعم أن هذا على حذف مضاف ، وهو كلوا من عوض طيبات ما رزقناكم ، فقوله ضعيف ، عوضهم عن جميع مآكلهم المستلذة بالمن والسلوى ، فكانا بدلاً من الطيبات .

وقد استنبط بعضهم من قوله : { كلوا من طيبات ما رزقناكم } أنه لا يكفي وضع المالك الطعام بين يدي الإنسان في إباحة الأكل ، بل لا يجوز التصرف فيه إلا بإذن المالك ، وهو قول .

وقيل : يملك بالوضع فقط ، وقيل : بالأخذ والتناول ، وقيل : لا يملك بحال ، بل ينتفع به وهو على ملك المالك .

وما في قوله : { ما رزقناكم } موصولة ، والعائد محذوف ، أي ما رزقناكموه ، وشروط الحذف فيه موجودة ، ولا يبعد أن يجوز مجوّز فيها أن تكون مصدرية ، فلا يحتاج إلى تقدير ضمير ، ويكون يطلق المصدر على المفعول ، والأول أسبق إلى الذهن .

{ وما ظلمونا } نفي أنهم لم يقع منهم ظلم لله تعالى ، وفي هذا دليل على أنه ليس من شرط نفي الشيء إمكان وقوعه ، لأن ظلم الإنسان لله تعالى لا يمكن وقوعه ألبتة .

قيل : المعنى وما ظلمونا بقولهم : { أرنا الله جهرة } ، بل ظلموا أنفسهم بما قابلناهم به من الصاعقة .

وقيل : وما ظلمونا بادخارهم المن والسلوى ، بل ظلموا أنفسهم بفساد طعامهم وتقليص أرزاقهم .

وقيل : وما ظلموانا بإبائهم على موسى أن يدخلوا قرية الجبارين .

وقيل : وما ظلمونا باستحبابهم العذاب وقطعهم مادّة الرزق عنهم ، بل ظلموا أنفسهم بذلك .

وقيل : وما ظلمونا بكفر النعم ، بل ظلموا أنفسهم بحلول النقم .

وقيل : وما ظلمونا بعبادة العجل ، بل ظلموا أنفسهم بقتل بعضهم بعضاً .

واتفق ابن عطية والزمخشري على أنه يقدر محذوف قبل هذه الجملة ، فقدره ابن عطية ، فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر ، قال : والمعنى وما وضعوا فعلهم في موضع مضرّة لنا ، ولكن وضعوه في موضع مضرّة لهم حيث لا يجب .

وقدره الزمخشري : فظلموا بأن كفروا هذه النعم ، وما ظلمونا ، قال : فاختصر الكلام بحذفه لدلالة وما ظلمونا عليه ، انتهى .

ولا يتعين تقدير محذوف ، كما زعما ، لأنه قد صدر منهم ارتكاب قبائح من اتخاذ العجل إلهاً ، ومن سؤال رؤية الله على سبيل التعنت ، وغير ذلك مما لم يقص هنا .

فجاء قوله تعالى : { وما ظلمونا } جملة منفية تدل على أن ما وقع منهم من تلك القبائح لم يصل إلينا بذلك نقص ولا ضرر ، بل وبال ذلك راجع إلى أنفسهم ومختص بهم ، لا يصل إلينا منه شيء .

{ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } : لكن هنا وقعت أحسن موقع ، لأنه تقدم قبلها نفي وجاء بعدها إيجاب ، نحو قوله تعالى : { وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم } ، وكذلك العكس ، نحو قوله تعالى : { ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون } ، أعني أن يتقدم إيجاب ثم يجيء بعدها نفي ، لأن الاستدراك الحاصل بها إنما يكون عليه ما قبلها بوجه مّا ، وذلك أنه لما تقرر أنه قد وقع منهم ظلم ، فلما نفى ذلك الظلم أن يصل إلى الله تعالى بقيت النفس متشوّفة ومتطلعة إلى ذكر من وقع به الظلم ، فاستدرك بأن ذلك الظلم الحاصل منهم إنما كان واقعاً بهم ، وأحسن مواقعها أن تكون بين المتضادين ، ويليه أن تقع بين النقيضين ، ويليه أن تقع بين الخلافين ، وفي هذا الأخير خلاف بين النحويين .

أذلك تركيب عربي أم لا ؟ وذلك نحو قولك : ما زيد قائم ، ولكن هو ضاحك ، وقد تكلم على ذلك في علم النحو .

واتفقوا على أنها لا تقع بين المتماثلين نحو : ما خرج زيد ولكن لم يخرج عمرو .

وطباق الكلام أن يثبت ما بعد لكن على سبيل ما نفي قبلها ، نحو قوله : { وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم } ، لكن دخلت كانوا هنا مشعرة بأن ذلك من شأنهم ومن طريقتهم ، ولأنها أيضاً تكون في كثير من المواضع تستعمل حيث يكون المسند لا ينقطع عن المسند إليه ، نحو قوله :

{ وكان الله بكل شيء عليماً } فكان المعنى : ولكن لم يزالوا ظالمي أنفسهم بكثرة ما يصدر منهم من المخالفات .

ويظلمون : صورته صورة المضارع ، وهو ماض من حيث المعنى ، وهذا من المواضع التي يكون فيها المضارع بمعنى الماضي .

ولم يذكره ابن مالك في التسهيل ولا فيما وقفنا عليه من كتبه ، وذكر ذلك غيره وقدم معمول الخبر عليه هنا وهو قوله : { أنفسهم } ، ليحصل بذلك توافق رؤوس الآي والفواصل ، وليدل على الاعتناء بالإخبار عمن حل به الفعل ، ولأنه من حيث المعنى صار العامل في المفعول توكيداً لما يدل عليه ما قبله .

فليس ذكره ضروريًّا ، وبأن التوكيد أن يتأخر عن المؤكد ، وذلك أنك تقول : ما ضربت زيداً ولكن ضربت عمراً ، فذكر ضربت الثانية أفادت التأكيد ، لأن لكن موضوعها أن يكون ما بعدها منافياً لما قبلها ، ولذلك يجوز أن تقول : ما ضربت زيداً ولكن عمراً ، فلست مضطراً لذكر العامل .

فلما كان معنى قوله : { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } في معنى : { ولكن ظلموا أنفسهم } ، كان ذكر العامل في المفعول ليس مضطراً إليه ، إذ لو قيل : وما ظلمونا ولكن أنفسهم ، لكان كلاماً عربياً ، ويكتفي بدلالة لكن أن ما بعدها مناف لما قبلها ، فلما اجتمعت هذه المحسنات لتقديم المفعول كان تقديمه هنا الأفصح .

/خ57