الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَظَلَّلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡغَمَامَ وَأَنزَلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ} (57)

قوله تعالى : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ } : تقديرُه : وجَعَلْنا الغَمَامَ يُظَلِّلُكُمْ ، قال أبو البقاء : " ولا يكونُ كقولِك : " ظَلَّلْتُ زيداً يُظَلُّ " لأن ذلك يقتضي أن يكونَ الغمامُ مستوراً بظِلٍّ آخَرَ " وقيل : التقديرُ : بالغَمامِ ، وهذا تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ ، لأنَّ حَذْفَ حرفِ الجرِّ لا ينقاسُ .

والغَمامُ : السَّحابُ لأنه يَغُمُّ وجهَ السماء ، أي يستُرُها ، وكلُّ مستورٍ مغموم أي مُغَطَّى ، وقيل : الغمامُ : السحابُ الأبيضُ خاصةً ، ومثلُه الغَيْمُ والغَيْن بالميم والنونِ ، وفي الحديثِ " إنه لَيُغَانُ على قَلْبِي " ، وواحدتُه غَمامةٌ فهو اسمُ جنسٍ .

والمَنُّ قيل : هو التَّرَّنْجِبين والطَّرَّنْجِيِِن بالتاء والطاء ، وقيل : هو مصدرٌ يعني به جميعَ ما منَّ الله تعالى به على بني إسرائيل من النِّعَمِ ، وكذلك قِيل في السَّلْوى ، إنها مصدرٌ أيضاً ، أي : إنَّ لهم بذلك التَّسَلِّيَ ، نقلَه الراغبُ ، والمَنُّ أيضاً مِقْدارٌ يُوزَنُ به ، وهذا يجوزُ إبدالُ نونِه الأخيرةِ حرفَ علَّة ، فيقالُ : " مَنا " مثلَ عَصا ، وتثنيتُه مَنَوان ، وجمعُه أمْناء . والسَّلْوى المشهورُ أنها السُّمانَى بتخفيفِ الميمِ ، طائرٌ معروف . والمَنُّ لا واحدَ له من لفظِه ، والسَّلْوى مفردُها سَلْواة ، وأنشدوا :

479- وإني لَتَعْروني لِذِكْراكِ سَلْوَةٌ *** كما انتفضَ السَّلْواةُ مِنْ بَلَلِ القَطْرِ

فيكونُ عندَهم من باب : قمح وقمحة ، وقيل : " سَلْوى " مفردٌ وجمعُها سَلاوى ، قاله الكسائي ، وقيل : سَلْوى يُستعمل للواحدِ والجمعِ ، كدَقَلى وشُكاعى وقيل : السَّلْوى : العَسَلُ ، قال الهذلي :

وقاسَمَها بالله جَهْداً لأنتمُ *** أَلَذُّ من السَّلْوَى إذا ما نَشُورُها

وغَلَّطه ابنُ عطية ، وادَّعَى الإِجماعَ على أن السَّلْوى طائر ، وهذا غيرُ مُرْضٍ من القاضي أبي محمد ، فإن أئمةَ اللغةِ نقلوا أن السَّلْوَى العَسَلُ ، ولم يُغْلِّطوا هذا الشاعرَ ، بل يستشهدونَ بقولِه .

قوله : " كُلُوا " هذا على إضمار القَوْلِ ، أي : وقُلْنَا لهم : كُلوا : وإضمارُ القولِ كثيرٌ في لسانِهم ، ومنه : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23-24 ] أي : يقولونَ سلامٌ ، " والذينَ اتَّخَذوا من دونِهِ أولياءَ ما نعبدُهم إلا " أي : يقولون ذلك ، " وأمَّا الذين اسْوَدَّتْ وجوهُهم أَكَفَرْتم أي : فيُقال لهم ذلك وقد تقدَّم القولُ في " كل " وتصريفِه .

قوله : { مِن طَيِّبَاتِ } " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ أو للتبعيضِ ، وقال أبو البقاء : " أو لبيانِ الجنسِ والمفعولُ محذوفٌ أي : كُلوا شيئاً من طيبات " وهذا غيرُ مُرْضٍ ، لأنه كيف يُبَيَّنُ شيءٌ ثم يُحْذَفُ ؟

قوله : { مَا رَزَقْنَاكُمْ } يجوزُ في " ما " أن تكونَ بمعنى الذي ، وما بعدها صلةٌ لها والعائدُ محذوفٌ ، أي : رزقناكموه ، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً . فالجملةُ لا محلَّ لها على الأولِ ومحلُّها الجرُّ على الثاني ، والكلامُ في العائدِ كما تقدَّم ، وأن تكونَ مصدريةً والجملةُ صلتُها ، ولم يُحْتَجْ إلى عائدٍ على ما عُرِفَ قبلَ ذلك ، ويكونُ هذا المصدرُ واقعاً موقعَ المفعولِ ، أي : مِنْ طيباتِ مَرْزُوقِنا .

قوله تعالى : { أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } " أنفسَهم " مفعولٌ مقدَّمٌ ، و " يَظْلِمُون " في محلِّ النصْبِ لكونِه خبرَ " كانوا " ، وقُدِّم المفعولُ إيذاناً باختصاصِ الظلم بهم وأنَّه لا يتعدَّاهم . والاستدراكُ في " لكنْ " واضحٌ . ولا بُدَّ من حَذْفِ جملةٍ قبل قوله { وَمَا ظَلَمُونَا } ، فقدَّره ابنُ عطية : فَعَصَوْا ولم يقابلوا النِّعَمَ بالشكر . وقال الزمخشري : " تقديرُه : فَطَلمُونا بأَنْ كفروا هذه النِّعَمَ وما ظلمونا ، فاختصرَ الكلامَ بحذْفِه لدلالةِ { وَمَا ظَلَمُونَا } عليه .