اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَظَلَّلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡغَمَامَ وَأَنزَلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ} (57)

هذا هو الإنعام السابع المذكور في سورة " الأعراف " ، وظاهر هذه الآية يدلّ على أن هذا الإضلال كان بعد البعث ، لأنه تعالى قال : { ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ البقرة : 56 ] ، { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ } أي : وجعلنا الغَمَام يظلكم ، وذلك في التِّيْهِ سخر الله تعالى لهم السحاب يظلّهم من الشمس ، ونزل عليهم المَنّ وهو " التَّرنْجِبِين " بالتاء والراء من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لكل إنسان صاع .

وقال " مجاهد " : هو شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار طَعْمُهُ كالشّهد .

وقال " وهب {[1334]} " : خبز الرقاق . وقال " السدي " : عَسَل كان يقع على الشجر من الليل .

وقال " الزجاج " : " المَنّ : ما يمنّ الله عز وجل به مما لا تَعَبَ فيه ولا نصب " .

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الكَمَأةُ من المَنّ وماؤها شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ{[1335]} " .

" والسَّلْوَى " قال " ابن عباس " وأكثر المفسرين : هو طَائِرٌ يشبه السّماني .

وقال أبو العالية ومقاتل : هو السّماني .

وقال " عكرمة " : طير " الهِنْدِ " أكبر من العصفور .

وقيل : السَّلوى : العسل نقله المؤرّج ، وأنشد قول الهذليِّ : [ الطويل ]

507- وَقَسَمَها بِاللَّهِ جَهْداً لأَنْتُمُ *** أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إذَا مَا نَشُورُهَا

وغله " ابن عطية " وادّعى الإجماع على أن السَّلْوَى : طائر ، وهذا غير مُرْضٍ ، فإن " المؤرج " من أئمة اللغة والتفسير ، واستدلّ ببيت الهذلي ، وذكر أنه بلغة " كنانة " . وقال " الراغب " : " السَّلْوَى مصدر ، أي : لهم بذلك التَّسلِّي " .

قوله : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ } تقديره : وجعلنا الغمام يُظَلِّلُكُمْ .

قال " أبو البقاء " : ولا يكون كقولك : " ظَلَّلْتُ زيداً يُظَلُّ " ؛ لأن ذلك يقتضي أن يكون الغمام مستوراً بظل آخر .

وقيل التقدير : بالغمام ، وهذا تفسير معنى لا إعراب ، لأن حذف الجر لا يَنْقَاس .

فصل في اشتقاق الغمام

الغمام : السَّحَاب ، لأنه يغم وَجْه السماء ، أي : يَسْتُرُهَا ، وكل مستور مغموم أي مغطى .

وقيل : الغمام : السَّحاب الأبيض خاصّة ، ومثله : الغَيْمُ والغَيْن بالميم والنون وفي الحديث : " إنه لَيُغَانُ عَلىَ قَلْبِي{[1336]} " .

وواحدته " غَمَامَةٌ " فهو اسم جنس . و " المَنّ " تقدم تفسيره ، ولا واحد له من لفظه .

والمَنّ أيضاً مقدار يوزن به ، وهذا يجوز إبدال نونه الأخيرة حرف علّة ، فيقال : مَناً مثل : عَصاً ، وتثنيته : مَنَوَان ، وجمعه : أمْنَاء . والسَّلْوَى تقدمت أيضاً ، واحدتها : سَلْوَاةٌ ؛ وأنشدوا : [ الطويل ]

507- وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ سَلْوَةٌ *** كَمَا انْتَفَضَ السَّلْوَاةُ مِنْ بَلَلِ القَطرِ

فيكون من باب " قَمْح وقَمْحَة " .

وقيل : سَلْوَى مفرد وجمعها : سَلاَوى ك " فَتْوَى وَفَتَاوَى " قاله " الكسائي " .

وقيل : سلوى يستعمل للواحد والجمع ك : دِفْلَى . و " السُّلْوَانَةُ " بالضم خَرَزَةٌ كانوا يقولون : إذا صُبَّ عليها ماء المَطَرِ فشربه العاشق سَلاَ ؛ [ قال : [ الطويل ]

509- شَرِبْتُ عَلَى سُلْوَانَةٍ مَاءً مُزْنَةٍ *** فَلاَ وَجَدِيدِ العَيْشِ يَا مَيُّ مَا أَسْلُو ]

واسم ذلك الماء " السُّلْوان " .

وقال بعضهم : " السُّلْوَان " دواء يُسْقَاه الحزين فَيَسْلُو ، والأطباء يسمونه المُفَرِّح .

يقال : سَلَيْتُ وسَلَوْت ، لُغَتَان . وهو في سُلْوة من العيش ، قاله " أبو زيد " .

و " السَّلوى " عطف على " المَنّ " لم يظهر فيه الإعراب ، لأنه مقصور ، وهذا في المقصور كلّه ؛ لأنه لا يخلو من أن يكون في آخره ألف .

قال الخليل : " والألف حرف هَوَائِيّ لا مُسْتَقَرّ له ، فأشبه الحركة ، فاستحالت حركته " .

وقال " الفراء " : " لو حركت الألف صارت همزة " .

فصل في سبب تقديم المن على السلوى

فإن قيل : المعهود تقديم الأهم [ فالأهم ] والمأكول مقدّم على الفاكهة والحلوى ؛ لأن به قيام البِنْيَةِ ، فالإنسان أول ما يأكل الغذاء ، ثم بعد الشِّبع يتحلّى ويأكل الفاكهة وهاهنا قدم المَنّ وهو الحلوى على الغذاء وهو السلوى فما فائدته ؟

فالجواب : أن نزول الحَلْوَى من السماء أمر مخالف للعادة ، فقدم لاستطعامه بخلاف الطيور المأكولة ، فإنها ليست مخالفةً للعادة ، فإنها مألوفةُ الأكل .

" كلوا " هذا على إضمار القول ، أي : وقلنا لهم : كلوا ، وإضمار القول كثير ، ومنه قوله تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سلام عليكم } [ الرعد : 23 ] أي : يقولون سلام ، { وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ } [ الزمر : 3 ] أي : يقولون : ما نعبدهم إلاّ . { فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ } [ آل عمران : 106 ] أي : فيقال لهم : أكفرتم ، وتقدم الكلام في كل تصريفه .

قوله : " مِنْ طَيِّبَات " من : لابتداء الغاية ، أو للتبعيض .

وقال : " أبو البقاء " : أو لبيان الجِنْسِ . والمفعول محذوف ، أي : كلوا شيئاً من طيبات . وهذا ضعيف ؛ لأنه كيف يبين شيء ثم يحذف .

قوله : " مَا رَزَقْنَاكُم " يجوز في " ما " أن تكون بمعنى الَّذي ، وما بعدها حاصلة لها ، والعائد محذوف ، أي : رَزَقْنَاكُمُوهُ ، وأن تكون نكرة موصوفة .

فالجملة لا محلّ لها على الأول ، ومحلّها الجر على الثَّاني ، والكلام في العَائِد كما تقدّم ، وأن تكون مصدريةً ، والجملة صلتها ، ولم تَحْتَجْ إلى عائدٍ على ما عرف قبل ذلك ، ويكون هذا المصدر واقعاً موقع المفعول ، أي : من طيبات مرزوقنا .

قوله : " أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ " .

" أنفسهم " مفعول مقدم ، و " يظلمون " في محل نصب خبر " كانوا " وقدّم المفعول إيذاناً باختصاص الظُّلم بهم ، وأنه لا يتعدّاهم .

والاستدراك في " لكن " واضح ، ولا بُدّ من حذف جملة قبل قوله : " وَمَا ظَلَمُونَا " ، فقدره ابن عطية : فعصوا ، ولم يقابلوا النعم بالشكر .

وقال " الزمخشري " : تقديره فظلمونا بأن كفروا هذه النعم ، وما ظلمونا ، فاختصر الكلام بحذفه لدلالة " وَمَا ظَلَمُونَا " عليه .

فإن قيل : قوله : " وَمَا ظَلَمُونَا " جملة خبرية ، فكيف عطفت على قوله : " كلوا " ، وهي جملة أمرية ؟ .

فالجواب من وجهين :

الأول : أن هذه جملة مستأنفة لا تعلُّق لها بما قبلها .

والثاني : أَنَّهَا معطوفة على الجملة القولية المحذوفة أي : وقيل لهم : كلوا من طيبات ما رزقناكم ، وما ظلمونا ، فيكون قد عطف جملة خبرية على خَبَرِيّة .

و " الظلم " : وضع الشيء في غير موضعه .

وقوله : " كانوا " وكانت هذه عادتهم كقولك : " كان حاتم كريماً " .


[1334]:- في أ: مرة.
[1335]:- أخرجه البخاري (6/22) ومسلم في كتاب الأشربة 157 والترمذي (2066) وابن ماجه (3453) وأحمد (1/187، 188) والبيهقي (9/345) والحميدي رقم (81) والطبراني في "الأوسط" (1/125).
[1336]:- أخرجه مسلم (4/2075) رقم (41/2702) وأبو داود (1515) وأحمد (4/211) والبيهقي (7/52) والطبراني (1/280) والبخاري في التاريخ الكبير (2/13).