الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَظَلَّلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡغَمَامَ وَأَنزَلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ} (57)

وذكر المفسِّرون في تظليل الغمامِ ، أنَّ بني إِسرائيل لما كان من أمرهم ما كان من القتل ، وبقي منهم من بقي ، حصلوا في فحص التِّيه بَيْن مصْر والشَّام ، فأُمِرُوا بقتال الجَبَّارين فَعَصَوْا ، وقالوا : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا } [ المائدة : 24 ] فدعا موسى عليهم ، فعوقبوا بالبقاء في ذلك الفحْص أربعين سَنَةً ، يتيهون في مقدارِ خَمْسَة فراسِخَ أو ستَّةٍ ، روي أنهم كانوا يمشون النهار كلَّه ، وينزلون للمبيت ، فيصبحون حيثُ كانوا بكرةَ أَمْسِ ، فندم موسى على دعائه علَيْهم ، فقيل له : { فلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين } [ المائدة : 26 ] .

وروي أنهم ماتوا بأجمعهم في فحص التِّيه ، ونشأ بنوهم على خير طاعة ، فهم الذين خرجوا من فحْصِ التيه ، وقاتلوا الجَبَّارين ، وإذ كان جميعُهم في التيه ، قالوا لموسى : من لنا بالطعامِ ؟ قال : اللَّه ، فأنزل اللَّه عليهم المَنَّ والسلوى ، قالوا : مَنْ لنا من حَرِّ الشمس ؟ فظلَّل عليهم الغمامَ ، قالوا : بِمَ نستصْبِحُ بالليل ، فضَرَبَ لهم عمودَ نُورٍ في وَسَطَ مَحَلَّتهم ، وذكر مكِّيٌّ عمود نار ، قالوا : من لنا بالماء ؟ فأمر موسى بضرب الحَجَرِ ، قالوا : من لنا باللباس ؟ فَأُعْطُوا أنَّ لا يبلى لهم ثوبٌ ، ولا يَخْلَقَ ، ولا يَدْرَنَ ، وأن تنمو صِغَارُهَا حَسَب نُمُوِّ الصبيانِ ، والمَنُّ صَمْغَةٌ حُلْوَةٌ هذا قول فرقةٍ ، وقيل : هو عسل ، وقيل : شراب حُلْوٌ ، وقيل : الذي ينزل اليوْمَ على الشجَر ، وروي أنَّ المَنَّ كان ينزل عليهم من طُلُوع الفَجْر إلى طُلُوع الشمس ، كالثلج فيأخذ منه الرجُلُ ما يكفيه ليومه ، فإِنِ ادَّخَرَ فسد عليه إِلا في يوم الجمعة ، فإِنهم كانوا يدَّخرون ليوم السبْتِ فلا يفسد عليهم ، لأن يوم السبت يومُ عبادةٍ ، والسلوى طيرٌ بإِجماع المفسِّرين ، فقيل : هو السُّمَّانا .

وقيل : طائر مثل السُّمَّانَا ، وقيل : طائر مثل الحمام تحشره عليهم الجَنُوب .

( ص ) قال ابن عطيَّة : وغلط الهُذَلِيُّ في إِطلاقه السلوى على العَسَلِ حيث قال : [ الطويل ]

وَقَاسَمَهَا بِاللَّهِ عَهْداً لأنْتُمُ *** أَلَذُّ مِنَ السلوى إِذَا مَا نَشُورُهَا

( ت ) قد نقل صاحبُ المختصر ، أنه يطلق على العَسَلِ لغةً فلا وجه لتغليطه ، لأنَّ إِجماع المفسِّرين لا يمنع من إِطلاقِهِ لغةً بمعنى آخر في غير الآية . انتهى .

وقوله تعالى : { كُلُواْ . . . } [ البقرة :57 ] .

معناه وقلنا : كلوا ، فحذف اختصارا لدلالة الظاهرة عليه ، والطَّيِّبَاتُ ، هنا جَمَعَتِ الحلال واللذيذ .

( ص ) وقوله : { وَمَا ظَلَمُونَا }[ البقرة :57 ] قدَّر ابن عطية قبل هذه الجملةِ محذوفًا أي : فَعَصوْا ، وما ظَلَمُونا وقدَّر غيره : فظَلَمُوا ومَا ظَلَمُونَا ، ولا حاجَة إِلى ذلك ، لأن ما تقدَّم عنهم من القبائِح يُغْنِي عنه انتهى .

( ت ) وقول أبي حَيَّان : لا حاجة إلى هذا التقديرإِلى آخره : يُرَدُّ بأن المحذوفاتِ في الكلام الفصيحِ هذا شأنها ، لا بد من دليل في اللفظ يدلُّ عليها إلا أنه يختلف ذلك في الوضوحِ والخفاءِ ، فأما حذف ما لا دليل عليه ، فإِنه لا يجوزُ .