قوله تعالى : { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } يحدث به قلبه فلا يخفى علينا سرائره وضمائره ، { ونحن أقرب إليه } أعلم به ، { من حبل الوريد } لأن أبعاضه وأجزاءه يحجب بعضها بعضاً ، ولا يحجب علم الله شيء ، وحبل الوريد عرق العنق ، وهو عرق بين الحلقوم والعلباوين ، يتفرق في البدن ، والحبل هو الوريد ، فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين .
هذا تفصيل لبعض الخلق الأول بذكر خلق الإنسان وهو أهم في هذا المقام للتنبيه على أنه المراد من الخلق الأول وليبنَى عليه { ونعلم ما توسوس به نفس } الذي هو تتميم لإحاطة صفة العلم في قوله : { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } [ ق : 4 ] ولينتقل منه الإنذار بإحصاء أعمال الناس عليها وهو ما استُرسل في وصفه من قوله : { إذ يتلقى المتلقيان } [ ق : 17 ] الخ .
ووصف البعث وصف الجزاء من قوله : { ونفخ في الصور } إلى قوله : { ولدينا مزيد } [ ق : 20 35 ] .
وتأكيد هذا الخبر باللام و ( قد ) مراعًى فيه المتعاطفات وهي { نعلم ما توسوس به نفسه } لأنهم وإن كانوا يعلمون أن الله خلق الناس فإنهم لا يعلمون أن الله عالم بأحوالهم .
و { الإنسان } يعم جميع الناس ولكن المقصود منهم أولاً المشركون لأنهم المسوق إليهم هذا الخبر ، وهو تعريض بالإنذار كما يدل عليه قوله بعده { ذلك ما كنت منه تحيد } [ ق : 19 ] وقوله : { لقد كنت في غفلة من هذا } [ ق : 22 ] وقوله : { ذلك يوم الوعيد } [ ق : 20 ] .
والبَاء في قوله { به } زائدة لتأكيد اللصوق ، والضمير عائد الصلة كأنه قيل : ما تتكلمه نفسه على طريقة { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] .
وفائدة الإخبار بأن الله يعلم ما توسوس به نفس كل إنسان التنبيه عل سعة علم الله تعالى بأحوالهم كلها فإذا كان يعلم حديث النفس فلا عجب أن يعلم ما تنقص الأرض منهم .
والإخبار عن فعل الخلق بصيغة المضيّ ظاهر ، وأما الإخبار عن علم ما توسوس به النفس بصيغة المضارع فللدلالة على أن تعلق علمه تعالى بالوسوسة متجدد غير منقض ولا محدود لإثبات عموم علم الله تعالى ، والكناية عن التحذير من إضمار ما لا يرضي الله .
وجملة { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } في موضع الحال من ضمير { ونعلم } .
والمقصود منها تأكيد عاملها وتحقيق استمرار العلم بباطن الإنسان ، ومعنى { توسوس } تتكلم كلاماً خفياً همساً . ومصدره الوسواس والوسوسة أطلقت هنا مجازاً على ما يجول في النفس من الخواطر والتقديرات والعزائم لأن الوسوسة أقرب شيء تشبه به تلك الخواطر وأحسن ما يستعار لها لأنها تجمع مختلف أحوال ما يجول في العقل من التقادير وما عداها من نحو ألفاظ التوهم والتفكر إنما يدل على بعض أحوال الخواطر دون بعض .
والحبل : هنا واحد حِبال الجسم . وهي العروق الغليظة المعروفة في الطبّ بالشرايين ، واحدها : شَرْيان بفتح الشين المهملة وتكسر وبسكون الراء وتعرف بالعروق الضوارب ومنبتها من التجْويف الأيسر من تجويفي القلب . وللشرايين عمل كثير في حياة الجسم لأنها التي توصل الدم من القلب إلى أهم الأعضاء الرئيسية مثل الرئة والدماغ والنخاع والكليتين والمعدة والأمعاء . وللشرايين أسماء باعتبار مصابِّها من الأعضاء الرئيسية .
والوريد : واحد من الشرايين وهو ثاني شريانين يخرجان من التجويف الأيسر من القلب .
واسمه في علم الطلب أورطِي ويتشعب إلى ثلاث شعب ثالثتهما تنقسم إلى قسمين قسم أكبر وقسم أصغر . وهذا الأصغير يخرج منه شريانان يسميان السباتِي ويصعدان يميناً ويساراً مع الودَجين ، وكل هذه الأقسام تسمى الوريد . وفي الجسد وَريدان وهما عرقان يكتنفان صفحتي العنق في مقدمهما متصلان بالوَتين يَرِدان من الرأس إليه .
وقد تختلف أسماء أجزائه باختلاف مواقعها من الجسد فهو في العنق يسمى الوريد ، وفي القلب يسمى الوتين ، وفي الظهر يسمى الأبهر ، وفي الذراع والفخذ يسمونه الأكحل والنَّسَا ، وفي الخنصر يدعى الأسلم .
وإضافة { حبل } إلى { الوريد } بيانية ، أي الحبل الذي هو الوريد ، فإن إضافة الأعم إلى الأخص إذا وَقعت في الكلام كانت إضافة بيانية كقولهم : شجر الأراك .
والقرب هنا كناية عن إحاطة العلم بالحال لأن القرب يستلزم الإطلاع ، وليس هو قربا بالمكان بقرينة المشاهدة فآل الكلام إلى التشبيه البليغ تشبيه معقول بمحسوس ، وهذا من بناء التشبيه على الكناية بمنزلة بناء المجاز على المجاز .
ومن لطائف هذا التمثيل أن حبل الوريد مع قربه لا يشعر الإنسان بقربه لخفائه ، وكذلك قرب الله من الإنسان بِعلمه قرب لا يشعر به الإنسان فلذلك اختير تمثيل هذا القرب بقرب حبل الوريد . وبذلك فاق هذا التشبيه لحالة القرب كلَّ تشبيه من نوعه ورد في كلام البلغاء . مثل قولهم : هو منه مقعد القابلة ومعقد الإزار ، وقول زهير :
وقول حنظلة بن سيار وهو حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي مخضرم :
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَلَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ "يقول تعالى ذكره: ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما تحدّث به نفسه، فلا يخفى علينا سرائره وضمائر قلبه.
"ونَحْنُ أقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ" يقول: ونحن أقرب للإنسان من حبل العاتق، والوريد: عرق بين الحلقوم والعِلْبَاوَيْن، والحبل: هو الوريد، فأضيف إلى نفسه لاختلاف لفظ اسميه...
وقد اختلف أهل العربية في معنى قوله: "ونَحْنُ أقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلٍ الوَرِيدِ" فقال بعضهم: معناه: نحن أملك به وأقرب إليه في المقدرة عليه. وقال آخرون: بل معنى ذلك: "ونَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيد" بالعلم بما تُوَسْوس به نفسه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدهما: يقول على علم منا يحدّث به نفسه من أنواع الحديث والوسوسة لا عن جهل وخفاء عن ذلك، فإن هو كفّها، وحبسها عما تدعو به إليه نفسه، وتهواه، وصرفها إلى ما يدعوه عقله وذهنه، نجا، وفاز،... وإن تركها حتى تمادى في هواها هلك...
والثاني: يذكر: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه} أي نحن مطّلعون على ذلك، ليس علم ذلك إلى الحفظة، وهم يتولّون كتابته، أي لم يجعل ذلك إلى أحد، إنما ذلك إلى الله تعالى، هو العالم بذلك، وهو المطّلِع عليه دون الملائكة، وإنما إلى الملائكة ما يلفظه، ويفعل بالجوارح... {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} أي أعلم وأولى به وأحق...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
يقول الله تعالى مقسما إنه خلق الانسان أي اخترعه وانشأه مقدرا. والخلق: الفعل الواقع على تقدير وترتيب. والمعنى إنه يوجده على ما تقتضيه الحكمة من غير زيادة ولا نقصان. وأخبر أنه يعلم ما يوسوس به صدر الإنسان. فالوسوسة: حديث النفس بالشيء في خفى...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ووسوسة النفس: ما يخطر ببال الإنسان ويهجس في ضميره من حديث النفس...
{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} مجاز، والمراد: قرب علمه منه، وأنه يتعلق بمعلومه منه ومن أحواله تعلقاً لا يخفى عليه شيء من خفياته، فكأنه ذاته قريبة منه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والخلق: إنشاء الشيء على ترتيب وتقدير حكمي. و: {الإنسان} اسم الجنس...
{توسوس} معناه: تتحدث في فكرتها... وسمي صوت الحلي وسواساً لخفائه، والوسوسة إنما تستعمل في غير الخير...
وقوله تعالى: {نحن أقرب إليه من حبل الوريد} عبارة عن قدرة الله على العبد، وكون العبد في قبضة القدرة، والعلم قد أحيط به، فالقرب هو بالقدرة والسلطان، إذ لا ينحجب عن علم الله باطن ولا ظاهر...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
"ونعلم ما توسوس به نفسه " أي ما يختلج في سره وقلبه وضميره، وفي هذا زجر عن المعاصي التي يستخفي بها...
وقيل: أي ونحن أعلم بما توسوس به نفسه من حبل وريده الذي هو من نفسه؛ لأنه عرق يخالط القلب، فعلم الرب أقرب إليه من علم القلب...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولقد} أي و- الحال أنا قد {خلقنا} بما لنا من العظمة {الانسان} وهو أعجب خلقاً وأجمع من جميع ما مضى ذكره بما فيه من الأنس والطغيان، والذكر والنسيان...
{ونعلم} أي والحال أننا نعلم بما لنا من الإحاطة {ما توسوس} أي تكلم على وجه الخفاء، {به} الآن وفيما بعد ذلك مما لم ينقدح بعد من خزائن الغيب إلى سر- النفس كما علمنا ما تكلم {نفسه} وهي الخواطر التي تعترض له حتى أنه هو ربما عجز عن ضبطها، فنحن نعلم أن قلوبهم عالمة بقدرتنا على أكمل ما نريد...
. {ونحن} بما لنا من العظمة {أقرب إليه} قرب علم وشهود من غير مسافة {من حبل الوريد} لأن أبعاضه وأجزاءه تحجب بعضها بعضاً، ولا يحجب علم الله شيء، والمراد به الجنس، والوريدان عرقان كالحبلين مكتنفان لصفحتي العنق في مقدمها متصلات من الرأس إلى الوتين وهو عرق القلب، وهذا مثل في فرط القرب...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد. ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد). (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد..) (ونفخ في الصور، ذلك يوم الوعيد. وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد. لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد. وقال قرينه:هذا ما لدي عتيد. ألقيا في جهنم كل كفار عنيد. مناع للخير معتد مريب. الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد. قال قرينه:ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد. قال:لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد. ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد. يوم نقول لجهنم:هل امتلأت؟ وتقول:هل من مزيد؟ وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد. هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ. من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب. ادخلوها بسلام، ذلك يوم الخلود، لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد).. وهذا هو المقطع الثاني في السورة:استطراد مع قضية البعث، التي عالجها الشوط الأول؛ وعلاج للقلوب المكذبة بلمسات جديدة، ولكنها رهيبة مخيفة. إنها تلك الرقابة التي تحدثنا عنها في تقديم السورة. ومشاهدها التي تمثلها وتشخصها. ثم مشهد الموت وسكراته. ثم مشهد الحساب وعرض السجلات. ثم مشهد جهنم فاغرة فاها تتلمظ كلما ألقي فيها وقودها البشري تقول: (هل من مزيد؟). وإلى جواره مشهد الجنة والنعيم والتكريم. إنها رحلة واحدة تبدأ من الميلاد، وتمر بالموت، وتنتهي بالبعث والحساب. رحلة واحدة متصلة بلا توقف؛ ترسم للقلب البشري طريقه الوحيد الذي لا فكاك عنه ولا محيد؛ وهو من أول الطريق إلى آخره في قبضة الله لا يتملص ولا يتفلت، وتحت رقابته التي لا تفتر ولا تغفل. وإنها لرحلة رهيبة تملأ الحس روعة ورهبة. وكيف بإنسان في قبضة الجبار، المطلع على ذات الصدور؟ وكيف بإنسان طالبه هو الواحد الديان، الذي لا ينسى ولا يغفل ولا ينام! إنه ليرجف ويضطرب ويفقد توازنه وتماسكه، حين يشعر أن السلطان في الأرض يتتبعه بجواسيسه وعيونه، ويراقبه في حركته وسكونه. وسلطان الأرض مهما تكن عيونه لا يراقب إلا الحركة الظاهرة. وهو يحتمي منه إذا آوى إلى داره، وإذا أغلق عليه بابه، أو إذا أغلق فمه! أما قبضة الجبار فهي مسلطة عليه أينما حل وأينما سار. وأما رقابة الله فهي مسلطة على الضمائر والأسرار.. فكيف؟ كيف بهذا الإنسان في هذه القبضة وتحت هذه الرقابة؟!
إن ابتداء الآية: (ولقد خلقنا الإنسان).. يشير إلى المقتضى الضمني للعبارة. فصانع الآلة أدرى بتركيبها وأسرارها. وهو ليس بخالقها لأنه لم ينشئ مادتها، ولم يزد على تشكيلها وتركيبها. فكيف بالمنشئ الموجد الخالق؟ إن الإنسان خارج من يد الله أصلا؛ فهو مكشوف الكنه والوصف والسر لخالقه العليم بمصدره ومنشئه وحاله ومصيره.. (ونعلم ما توسوس به نفسه).. وهكذا يجد الإنسان نفسه مكشوفة لا يحجبها ستر، وكل ما فيها من وساوس خافتة وخافية معلوم لله، تمهيدا ليوم الحساب الذي ينكره ويجحده! (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد).. الوريد الذي يجري فيه دمه. وهو تعبير يمثل ويصور القبضة المالكة، والرقابة المباشرة. وحين يتصور الإنسان هذه الحقيقة لا بد يرتعش ويحاسب. ولو استحضر القلب مدلول هذه العبارة وحدها ما جرؤ على كلمة لا يرضى الله عنها. بل ما جرؤ على هاجسة في الضمير لا تنال القبول. وإنها وحدها لكافية ليعيش بها الإنسان في حذر دائم وخشية دائمة ويقظة لا تغفل عن المحاسبة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا تفصيل لبعض الخلق الأول بذكر خلق الإنسان وهو أهم في هذا المقام للتنبيه على أنه المراد من الخلق الأول وليبنَى عليه {ونعلم ما توسوس به نفس} الذي هو تتميم لإحاطة صفة العلم في قوله: {قد علمنا ما تنقص الأرض منهم} [ق: 4] ولينتقل منه الإنذار بإحصاء أعمال الناس عليها وهو ما استُرسل في وصفه من قوله: {إذ يتلقى المتلقيان} [ق: 17] الخ.
ووصف البعث وصف الجزاء من قوله: {ونفخ في الصور} إلى قوله: {ولدينا مزيد} [ق: 20 35].
وتأكيد هذا الخبر باللام و (قد) مراعًى فيه المتعاطفات وهي {نعلم ما توسوس به نفسه} لأنهم وإن كانوا يعلمون أن الله خلق الناس فإنهم لا يعلمون أن الله عالم بأحوالهم.
و {الإنسان} يعم جميع الناس ولكن المقصود منهم أولاً المشركون لأنهم المسوق إليهم هذا الخبر، وهو تعريض بالإنذار كما يدل عليه قوله بعده {ذلك ما كنت منه تحيد} [ق: 19] وقوله: {لقد كنت في غفلة من هذا} [ق: 22] وقوله: {ذلك يوم الوعيد} [ق: 20].
والبَاء في قوله {به} زائدة لتأكيد اللصوق، والضمير عائد الصلة كأنه قيل: ما تتكلمه نفسه على طريقة {وامسحوا برؤوسكم} [المائدة: 6].
وفائدة الإخبار بأن الله يعلم ما توسوس به نفس كل إنسان التنبيه عل سعة علم الله تعالى بأحوالهم كلها فإذا كان يعلم حديث النفس فلا عجب أن يعلم ما تنقص الأرض منهم.
والإخبار عن فعل الخلق بصيغة المضيّ ظاهر، وأما الإخبار عن علم ما توسوس به النفس بصيغة المضارع فللدلالة على أن تعلق علمه تعالى بالوسوسة متجدد غير منقض ولا محدود لإثبات عموم علم الله تعالى، والكناية عن التحذير من إضمار ما لا يرضي الله.
وجملة {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} في موضع الحال من ضمير {ونعلم}. والمقصود منها تأكيد عاملها وتحقيق استمرار العلم بباطن الإنسان، ومعنى {توسوس} تتكلم كلاماً خفياً همساً. ومصدره الوسواس والوسوسة أطلقت هنا مجازاً على ما يجول في النفس من الخواطر والتقديرات والعزائم لأن الوسوسة أقرب شيء تشبه به تلك الخواطر وأحسن ما يستعار لها لأنها تجمع مختلف أحوال ما يجول في العقل من التقادير وما عداها من نحو ألفاظ التوهم والتفكر إنما يدل على بعض أحوال الخواطر دون بعض...
[ونحن أقرب إليه من حبل الوريد] والقرب هنا كناية عن إحاطة العلم بالحال لأن القرب يستلزم الاطلاع، وليس هو قربا بالمكان بقرينة المشاهدة فآل الكلام إلى التشبيه البليغ تشبيه معقول بمحسوس، وهذا من بناء التشبيه على الكناية بمنزلة بناء المجاز على المجاز.
ومن لطائف هذا التمثيل أن حبل الوريد مع قربه لا يشعر الإنسان بقربه لخفائه، وكذلك قرب الله من الإنسان بِعلمه قرب لا يشعر به الإنسان فلذلك اختير تمثيل هذا القرب بقرب حبل الوريد. وبذلك فاق هذا التشبيه لحالة القرب كلَّ تشبيه من نوعه ورد في كلام البلغاء.