فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ وَنَعۡلَمُ مَا تُوَسۡوِسُ بِهِۦ نَفۡسُهُۥۖ وَنَحۡنُ أَقۡرَبُ إِلَيۡهِ مِنۡ حَبۡلِ ٱلۡوَرِيدِ} (16)

{ ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } هذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر بعض القدرة الربانية ، والمراد بالإنسان الجنس ، وقيل : آدم ، ونعلم حال بتقدير نحن ، والجملة إسمية ولا يصح أن يكون ونعلم حالا بنفسه لأنه مضارع مثبت باشرته الواو وما مصدرية أو موصولة كما في البيضاوي ، والباء زائدة كقولك : صوت بكذا وهمس به أو للتعدية ، أي نعلم وسوسة نفسه له ، أو نعلم الأمر الذي تحدثه نفسه به ، فالنفس تجعل الإنسان قائما به الوسوسة ، والوسوسة هي في الأصل الصوت الخفي ، والمراد بها هنا ما يختلج في سره وقلبه وضميره . أي حديث النفس ، وهو ما ليس فيه صوت كالكلية لكن مناسبته للمعنى الأصلي الخفاء في كل ، أي : نعلم ما يخفي ويكن في نفسه ، ومن استعمال الوسوسة في الصوت الخفي قول الأعشى : تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت .

فاستعمل لما خفي من حديث النفس .

{ ونحن أقرب إليه } أي إلى الإنسان ، لأن أبعاضه وأجزاءه يحجب بعضها بعضا ، ولا يحجب على الله شيء { من حبل الوريد } هو حبل العاتق ، وهو ممتد من ناحية حلقه إلى عاتقه وهما وريدان ، أي : عرقان عن يمين وشمال ، وقال الحسن : الوريد الوتين ، وهو عرق معلق بالقلب ، وهو تمثيل للقرب بقرب ذلك العرق من الإنسان ، أي نحن أقرب إليه بالعلم من حبل وريده ، لا يخفى علينا شيء من خفيانه ، فكأن ذاته قريبة منه ، كما يقال : الله في كل مكان ، أي : بعلمه ، فإنه سبحانه منزه عن الأمكنة ، وحاصله أنه تجوز بقرب الذات عن قرب العلم ، قاله الكرخي والإضافة بيانية ، أي حبل من الوريد ، وقيل : الحبل هو نفس الوريد ، فهو من باب مسجد الجامع ، سمي وريدا لأن الروح ترد إليه وهو في العنق الوريد ، وفي القلب الوتين ، وفي الظهر الأبهر . وفي الذراع والفخذ الأكحل والنسا ، وفي الخنصر الأسيلم .

وفي الخازن : الوريد الذي يجري فيه الدم ويصل إلى كل جزء من أجزاء البدن ، وهو بين الحلق والعلباوين ، وقال الزمخشري : : إنهما وريدان يكتنفان بصفحتي العنق في مقدمهما ، متصلان بالوتين يردان من الرأس إليه ، قال أبو السعود : وهو عرق متصل بالقلب ، إذا قطع مات صاحبه ، وقيل : المعنى نحن أقرب إليه بنفوذ قدرتنا فيه ، ويجري فيه أمرنا كما يجري الدم في عروقه .

وقد أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " نزل الله من ابن آدم أربع منازل ، هو أقرب إليه من حبل الوريد ، وهو يحول بين المرء وقلبه ، وهو آخذ بناصية كل دابة ، وهو معهم أينما كانوا " . وقال أبو سعيد في حبل الوريد : هو عروق العنق ، وعنه هو نياط القلب ، قال القشيري : في هذه الآية هيبة وفزع وخوف لقوم ، وروح وأنس وسكون قلب لقوم ، ذكره الخطيب .