معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (11)

قوله تعالى : { إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم } سبب نزول هذه الآية ما أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عبد العزيز بن عبد الله ، أنبأنا إبراهيم بن سعد ، عن صالح ، عن ابن شهاب ، قال : حدثني عروة بن الزبير ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة بن وقاص ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا ، وكلهم حدثني طائفة من حديثها ، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت له اقتصاصاً ، وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدثني عن عائشة ، وبعض حديثهم يصدق بعضاً . وإن كان بعضهم أوعى له من بعض قالوا : قالت عائشة : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين أزواجه وأيهن خرج سهمها خرج بها النبي صلى الله عليه وسلم معه ، قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزوة غزاها ، فخرج فيها سهمي ، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أنزل الحجاب ، فكنت أحمل في هودج وأنزل فيه ، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك ، وقفل ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع فرجعت ، فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه . قالت : وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه وهم يحسبون أني فيه ، وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يهبلن ولم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا ، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب ، فتيممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي ، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت ، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني وكان رآني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي ، والله ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها ، فقمت إليها فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول . قالت : فهلك من هلك ، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي بن سلول ، قال عروة أخبرت أنه كان يشاع ويتحدث به عنده فيقره ويستمعه ويستوشيه . وقال عروة أيضاً : لم يسم من أهل الإفك أيضاً إلا حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش في ناس آخرين لا علم لي بهم غير أنهم عصبة ، كما قال الله تعالى : { والذي تولى } كبر ذلك عبد الله بن أبي سلول ، قال عروة : كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان ، وتقول : إنه الذي قال :

فإن أبي ووالدتي وعرضي *** لعرض محمد منكم وقاء

قالت عائشة : فقدمنا المدينة ، فاشتكيت حين قدمت شهراً ، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول كيف تيكم ؟ ثم ينصرف ، فذلك يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت حين نقهت ، فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع وكان متبرزنا ، كنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل ، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه قبل الغائط ، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا . قالت : فانطلقت ، أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق ، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب ، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح في مرطها ، فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئس ما قلت أتسبين رجلاً شهد بدراً ؟ فقالت : أي هنتاه أولم تسمعي ما قال ؟ قالت : فقلت ما قال ، فأخبرتني بقول أهل الإفك ، قالت فازددت مرضا على مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : كيف تيكم ؟ فقلت له : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ قالت : وأنا أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ، قالت : فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت لأمي : يا أمتاه ماذا يتحدث الناس ؟ قالت : يا بنية هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر إلا أكثرن عليها . قالت فقلت : سبحان الله أو لقد تحدث الناس بهذا ؟ قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، ثم أصبحت أبكي . قالت : ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله ، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه ، فقال أسامة : أهلك ولا نعلم إلا خيراً ، وأما علي فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير ، وسل الجارية تصدقك الخبر ، قالت : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ، فقال : أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك ؟ قالت له بريرة : والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمراً قط أغمضه غير أنها جارية حديثة السن ، تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله . قالت : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي وهو على المنبر ، فقال : يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي ، والله ما علمت على أهلي إلا خيراً ، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً وما يدخل على أهلي إلا معي ، قالت : فقام سعد ابن معاذ أخو بني عبد الأشهل ، فقال أنا يا رسول الله أعذرك فإن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فعلنا أمرك ، قالت : وقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه وهو سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ، قالت عائشة : وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية فقال لسعد : كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل ، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم لسعد فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتله ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين ، قالت : فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر ، قالت : فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت . قالت : فبكيت يومي ذلك كله لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، قالت وأصبح أبواي عندي ، قالت : وقد بكيت ليلتين ويوماً لا أكتحل بنوم ، ولا يرقأ لي دمع حتى إني لأظن أن البكاء فالق كبدي فبينا أبواي جالسان عندي ، وأنا أبكي فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها ، فجلست تبكي معي . قالت : فبينا نحن على ذلك دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا فسلم ثم جلس ، قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها ، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء ، قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال : أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه . قالت : فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة ، فقلت لأبي أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال ، فقال أبي : لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت أمي : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيراً : إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به ، فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني ، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني ، فوالله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا قول أبا يوسف حين قال : { فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } ثم تحولت واضطجعت على فراشي والله يعلم أني حينئذ بريئة ، وأن الله مبرئي ببراءتي ، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحياً يتلى ، لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها ، فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه الوحي فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه العرق مثل الجمان ، وهو في يوم شات ، من ثقل القول الذي أنزل عليه ، قالت : فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال : أبشري يا عائشة أما والله فقد برأك الله ، قالت : فقالت لي أمي : قومي إليه فقلت : والله لا أقوم إليه فإني لا أحمد إلا الله ، قالت : وأنزل الله تعالى : { إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم } العشر الآيات ، ثم أنزل الله في براءتي قال أبو بكر الصديق ، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره : والله لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة ما قال ، فأنزل الله : { ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة } إلى قوله { غفور رحيم } قال أبو بكر الصديق : بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبداً . قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري فقال لزينب : ماذا علمت أو رأيت ؟ فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت إلا خيراً ، قالت عائشة ، وهي التي تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع ، قالت : وطفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك . قال ابن شهاب : فهذا الذي بلغني من حديث هؤلاء الرهط ، قالت عائشة : والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول : سبحان الله فوالذي نفسي بيده ما كشفت عن كنف أنثى قط . قالت : ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله .

ورواه محمد بن إسماعيل عن يحيى بن بكير ، أخبرنا الليث عن يونس عن ابن شهاب بإسناد مثله ، وقال : " وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب الله عليه ، إلى قوله : فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك . ورواه أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة فقالت : ولقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي فسأل عني خادمتي ، فقالت : لا والله ما علمت عليها عيباً إلا أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل خميرها أو عجينها ، فانتهرها بعض أصحابه ، فقال : اصدقي رسول الله حتى أسقطوا المهابة ، فقالت : سبحان الله والله ما علمت عليها إلا كما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر ، وفيه قالت : وأنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع عنه وإني لأتبين السرور في وجهه وهو يمسح جبينه ، ويقول : أبشري يا عائشة فقد أنزل الله براءتك ، فقال لي أبواي : قومي إليه ، فقلت : لا والله لا أقوم إليه ، ولا أحمده ولا أحمد أحداً ، ولكن أحمد الله الذي برأءتي ، لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه " . أما تفسير قوله : { إن الذين جاؤوا بالإفك } بالكذب ، وهو أسوأ الكذب ، سمي إفكاً لكونه مصروفاً عن الحق ، من قولهم : أفك الشيء إذا قلبه عن وجهه ، وذلك أن عائشة كانت تستحق الثناء لما كانت عليه من الحصانة والشرف فمن رماها بالسوء قلب الأمر عن وجهه ، عصبة منكم أي : جماعة منهم عبد الله بن أبي بن سلول ، ومسطح بن أثاثة ، وحسان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش ، زوجة طلحة بن عبيد الله ، وغيرهم ، { لا تحسبوه شراً لكم } يا عائشة ويا صفوان ، وقيل : هو خطاب لعائشة ولأبويها وللنبي صلى الله عليه وسلم ولصفوان ، يعني : لا تحسبوا الإفك شراً لكم ، { بل هو خير لكم } لأن الله يأجركم على ذلك ويظهر براءتكم . وسمي الإفك إفكا لكونه مصروفا عن الحق من قولهم أفك الشيء إذا قلبه عن وجهه ، وذلك أن عائشة كانت تستحق الثناء بما كانت عليه من الحصانة والشرف ، فمن رماها بالسوء قلب الأمر عن وجهه . قوله تعالى : { لكل امرئ منهم } يعني من العصبة الكاذبة { ما اكتسب من الإثم } أي : جزاء ما اجترح من الذنب على قدر ما خاض فيه ، { والذي تولى كبره } أي : تحمل معظمه فبدأ بالخوض فيه ، قرأ يعقوب كبره بضم الكاف ، وقرأ العامة بالكسر ، قال الكسائي : هما لغتان . قال الضحاك : قام بإشاعة الحديث ، وهو عبد الله بن أبي بن سلول . وروى الزهري عن عروة بن عائشة { والذي تولى كبره منهم } قالت : عبد الله بن أبي بن سلول ، والعذاب الأليم هو النار في الآخرة . وقد روى ابن أبي مليكة عن عروة عن عائشة في حديث الإفك قالت : " ثم ركبت وأخذ صفوان بالزمام فمررنا بملأ من المنافقين ، وكانت عادتهم أن ينزلوا منتبذين من الناس ، فقال عبد الله بن أبي ، رئيسهم : من هذه ؟ قالوا : عائشة قال : والله ما نجت منه وما نجا منها ، وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقود بها . وشرع في ذلك أيضاً حسان ابن ثابت ، ومسطح ، وحمنة ، فهم الذين تولوا كبره . وقال قوم : هو حسان بن ثابت " .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا بشر بن خالد ، أنبأنا محمد بن جعفر عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : " دخلت على عائشة وعندها حسان بن ثابت ينشد شعراً يشبب بأبيات له ، وقال :

‌حصان رزان ما تزن بريبة *** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل‌‌

فقالت له عائشة : لكنك لست كذلك ، قال مسروق فقلت لها : لم تأذنين له أن يدخل عليك وقد قال الله تعالى : { والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم } قالت : وأي عذاب أشد من العمى ، وقالت : إنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالذين رموا عائشة فجلدوا الحد جميعاً ثمانين ثمانين .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (11)

استئناف ابتدائي فإن هذه الآيات العشر إلى قوله تعالى : { والله سميع عليم } [ النور : 21 ] نزلت في زمن بعيد عن زمن نزول الآيات التي من أول هذه السورة كما ستعرفه .

والإفك : اسم يدل على كذب لا شبهة فيه فهو بهتان يفجأ الناس . وهو مشتق من الأفك بفتح الهمزة وهو قلب الشيء ، ومنه سمي أهل سدوم وعمورة وأدمة وصبوييم قرى قوم لوط أصحاب المؤتفكة لأن قراهم ائتفكت ، أي قُلبت وخسف بها فصار أعلاها أسفلها فكان الإخبار عن الشيء بخلاف حالته الواقعية قلباً له عن حقيقته فسمي إفكاً . وتقدم عند قوله تعالى : { فإذا هي تلقف ما يأفكون } في سورة الأعراف ( 117 ) .

و { جاءو بالإفك } معناه : قصدوا واهتموا . وأصله : أن الذي يخبر بخبر غريب يقال له : جاء بخبر كذا ، لأن شأن الأخبار الغريبة أن تكون مع الوافدين من أسفار أو المبتعدين عن الحي قال تعالى : { إن جاءكم فاسق بنبأ } [ الحجرات : 6 ] ؛ فشبه الخبر بقدوم المسافر أو الوافد على وجه المكنية وجعل المجيء ترشيحاً وعدي بباء المصاحبة تكميلاً للترشح .

والإفك : حديث اختلقه المنافقون وراج عند المنافقين ونفر من سذج المسلمين إما لمجرد اتباع النعيق وإما لإحداث الفتنة بين المسلمين . وحاصل هذا الخبر : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة بني المصطلق من خزاعة ، وتسمى غزوة المريسيع ولم تبق بينه وبين المدينة إلا مرحلة . آذن بالرحيل آخر الليل . فلما علمت عائشة بذلك خرجت من هودجها وابتعدت عن الجيش لقضاء شأنها كما هو شأن النساء قبل الترحل فلما فرغت أقبلت إلى رحلها فافتقدت عقداً من جَزْع ظَفَارِ كان في صدرها فرجعت على طريقها تلتمسه فحبسها طلبه وكان ليل . فلما وجدته رجعت إلى حيث وضع رحلها فلم تجد الجيش ولا رحلها ، وذلك أن الرجال الموكلين بالترحل قصدوا الهودج فاحتملوه وهم يحسبون أن عائشة فيه وكانت خفيفة قليلة اللحم فرفعوا الهودج وساروا فلما لم تجد أحداً اضطجعت في مكانها رجاء أن يفتقدوها فيرجعوا إليها فنامت وكان صفوان بن المعطِّل ( بكسر الطاء ) السُّلمي ( بضم السين وفتح اللام نسبة إلى بني سليم وكان مستوطناً المدينة من مهاجرة العرب ) قد أوكل إليه النبي صلى الله عليه وسلم حراسة ساقة الجيش ، فلما علم بابتعاد الجيش وأمن عليه من غدر العدو ركب راحلته ليلتحق بالجيش فلما بلغ الموضع الذي كان به الجيش بصُر بسواد إنسان فإذا هي عائشة وكان قد رآها قبل الحجاب فاسترجع ، واستيقظت عائشة بصوت استرجاعه ونزل عن ناقته وأدناها منها وأناخها فركبتها عائشة وأخذ يقودها حتى لحق بالجيش في نحر الظهيرة وكان عبد الله بن أبي بن سلول رأسُ المنافقين في الجيش فقال : والله ما نجت منه ولا نجا منها ، فراج قوله على حسان بن ثابت ومِسْطح بن أثاثة ( بكسر ميم مسطح وفتح طائه وضم همزة أثاثة ) وحَمنة بنت جحش أخت زينب أم المؤمنين حملتها الغيرة لأختها ضرة عائشة وساعدهم في حديثهم طائفة من المنافقين أصحاب عبد الله بن أبي .

فالإفك : علم بالغلبة على ما في هذه القصة من الاختلاق .

والعصبة : الجماعة من عشرة إلى أربعين كذا قال جمهور أهل اللغة . وقيل العصبة : الجماعة من الثلاثة إلى العشرة وروي عن ابن عباس . وقيل في مصحف حفصة « عصبة أربعة منكم » . وهم اسم جمع لا واحد له من لفظه ، ويقال : عصابة . وقد تقدم في أول سورة يوسف ( 8 ) .

{ وعصبة } بدل من ضمير { جاءو } .

وجملة : { لا تحسبوه شراً لكم } خبر { إن } . والمعنى : لا تحسبوا إفكهم شراً لكم ، لأن الضمير المنصوب من { تحسبوه } لما عاد إلى الإفك وكان الإفك متعلقاً بفعل { جاءو } صار الضمير في قوة المعرف بلام العهد . فالتقدير : لا تحسبوا الإفك المذكور شراً لكم . ويجوز أن يكون خبر { إن } قوله : { لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم } وتكون جملة { لا تحسبوه } معترضة .

ويجوز جعل { عصبة } خبر { إن } ويكون الكلام مستعملاً في التعجيب من فعلهم مع أنهم عصبة من القوم أشد نكراً ، كما قال طرفة :

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة *** على المرء من وقع الحسام المهند

وذكر { عصبة } تحقير لهم ولقولهم ، أي لا يعبأ بقولهم في جانب تزكية جميع الأمة لمن رموهما بالإفك . ووصف العصبة بكونهم { منكم } يدل على أنهم من المسلمين ، وفي ذلك تعريض بهم بأنهم حادوا عن خلق الإسلام حيث تصدوا لأذى المسلمين .

وقوله : { لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم } لإزالة ما حصل في نفوس المؤمنين من الأسف من اجتراء عصبة على هذا البهتان الذي اشتملت عليه القصة فضمير { تحسبوه } عائد إلى الإفك .

والشر المحسوب : أنه أحدث في نفر معصية الكذب والقذف والمؤمنون يودون أن تكون جماعتهم خالصة من النقائص ( فإنهم أهل المدينة الفاضلة ) . فلما حدث فيهم هذا الاضطراب حسبوه شراً نزل بهم .

ومعنى نفي أن يكون ذلك شراً لهم لأنه يضيرهم بأكثر من ذلك الأسف الزائل وهو دون الشر لأنه آيل إلى توبة المؤمنين منهم فيتمحض إثمه للمنافقين وهم جماعة أخرى لا يضر ضلالهم المسلمين .

وقال أبو بكر ابن العربي : حقيقة الخير ما زاد نفعه على ضره وحقيقة الشر ما زاد ضره على نفعه . وأن خيراً لا شر فيه هو الجنة وشراً لا خير فيه هو جهنم . فنبه الله عائشة ومن ماثلها ممن ناله همّ من هذا الحديث أنه ما أصابهم منه شر بل هو خير على ما وضع الله الشر والخير عليه في هذه الدنيا من المقابلة بين الضر والنفع ورجحان النفع في جانب الخير ورجحان الضر في جانب الشر اه .

وتقدم ذكر الخير عند قوله تعالى : { أينما يوجهه لا يأت بخير } في سورة النحل ( 76 ) .

وبعد إزالة خاطر أن يكون ذلك شراً للمؤمنين أثبت أنه خير لهم فأتى بالإضراب لإبطال أن يحسبوه شراً ، وإثبات أنه خير لهم لأن فيه منافع كثيرة ؛ إذ يميز به المؤمنون الخلص من المنافقين ، وتشرع لهم بسببه أحكام تردع أهل الفسق عن فسقهم ، وتتبين منه براءة فضلائهم ، ويزداد المنافقون غيظاً ويصبحون محقرين مذمومين ، ولا يفرحون بظنهم حزن المسلمين ، فإنهم لما اختلقوا هذا الخبر ما أرادوا إلا أذى المسلمين ، وتجيء منه معجزات بنزول هذه الآيات بالإنباء بالغيب . قال في « الكشاف » : . . . وفوائد دينية وآداب لا تخفى على متأملها اه .

وعدل عن أن يعطف { خيراً } على { شراً } بحرف ( بل ) فيقال : بل خيراً لكم ، إيثاراً للجملة الاسمية الدالة على الثبات والدوام .

والإثم : الذنب وتقدم عند قوله تعالى : { قل فيهما إثم كبير } في سورة البقرة ( 219 ) وعند قوله : { وذروا ظاهر الإثم وباطنه } في سورة الأنعام ( 120 ) .

وتولي الأمر : مباشرة عمله والتهمم به .

{ والكِبر } بكسر الكاف في قراءة الجمهور ، ويجوز ضم الكاف . وقرأ به يعقوب وحده ، ومعناه : أشد الشيء ومعظمه ، فهما لغتان عند جمهور أيمة اللغة . وقال ابن جني والزجاج : المكسور بمعنى الإثم ، والمضموم : معظم الشيء . { والذي تولى كبره } هو عبد الله بن أبي بن سلول وهو منافق وليس من المسلمين .

وضمير { منهم } عائد إلى { الذين جاءو بالإفك } . وقيل : الذي تولى كبره حسان ابن ثابت لما وقع في « صحيح البخاري » : « عن مسروق قال : دخل حسان على عائشة فأنشد عندها أبياتاً منها :

حصانٌ رزانٌ ما تُزَنُّ بريبة *** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

فقالت له عائشة : لكن أنت لست كذلك . قال مسروق فقلت : تَدَعِين مثل هذا يدخل عليك وقد أنزل الله تعالى : { والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم } فقالت : أي عذاب أشد من العمى » .

والوعيد بأن له عذاباً عظيماً يقتضي أنه عبد الله بن أبي بن سلول . وفيه إنباء بأنه يموت على الكفر فيعذب العذاب العظيم في الآخرة وهو عذاب الدرك الأسفل من النار ، وأما بقية العصبة فلهم من الإثم بمقدار ذنبهم . وفيه إيماء بأن الله يتوب عليهم إن تابوا كما هو الشأن في هذا الدين .