فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (11)

خبر «إن » من قوله { إِنَّ الذين جَاءُو بالإفك } هو : { عُصْبَةٌ } ، و { مّنكُمْ } صفة لعصبة ، وقيل : هو { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ } ، وتكون عصبة بدلا من فاعل جاءُوا . قال ابن عطية : وهذا أنسق في المعنى ، وأكثر فائدة من أن يكون الخبر عصبة ، وجملة { لا تحسبوه } ، وإن كانت طلبية ، فجعلها خبراً يصح بتقدير كما في نظائر ذلك ، والإفك : أسوأ الكذب وأقبحه ، وهو مأخوذ من أفك الشيء إذا قلبه عن وجهه . فالإفك : هو الحديث المقلوب ، وقيل : هو البهتان . وأجمع المسلمون على أن المراد بما في الآية : ما وقع من الإفك على عائشة أمّ المؤمنين ، وإنما وصفه الله بأنه إفك ؛ لأن المعروف من حالها رضي الله عنها خلاف ذلك ، قال الواحدي : ومعنى القلب في هذا الحديث الذي جاء به أولئك النفر : أن عائشة رضي الله عنها كانت تستحق الثناء بما كانت عليه من الحصانة ، وشرف النسب والسبب لا القذف ، فالذين رموها بالسوء قلبوا الأمر عن وجهه ، فهو إفك قبيح ، وكذب ظاهر ، والعصبة : هم الجماعة من العشرة إلى الأربعين ، والمراد بهم هنا : عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين ، زيد بن رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح ابن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ، ومن ساعدهم . وقيل : العصبة من الثلاثة إلى العشرة ، وقيل : من عشرة إلى خمسة عشر . وأصلها في اللغة : الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض ، وجملة { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ } إن كانت خبراً لإنّ فظاهر ، وإن كان الخبر عصبة كما تقدّم فهي مستأنفة ، خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم ، وعائشة ، وصفوان بن المعطل الذي قذف مع أمّ المؤمنين ، وتسلية لهم ، والشرّ ما زاد ضرّه على نفعه ، والخير ما زاد نفعه على ضرّه ، وأما الخير الذي لا شرّ فيه فهو الجنة ، والشرّ الذي لا خير فيه فهو النار ، ووجه كونه خيراً لهم أنه يحصل لهم به الثواب العظيم مع بيان براءة أمّ المؤمنين ، وصيرورة قصتها هذه شرعاً عامًّا { لِكُلّ امرئ مّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم } أي بسبب تكلمه بالإفك { والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } قرأ الحسن ، والزهري ، وأبو رجاء ، وحميد الأعرج ، ويعقوب ، وابن أبي علية ، ومجاهد ، وعمرة بنت عبد الرحمن بضمّ الكاف . قال الفرّاء : وهو وجه جيد ، لأن العرب تقول : فلان تولى عظيم كذا وكذا أي : أكبره ، وقرأ الباقون بكسرها . قيل : هما لغتان ، وقيل : هو بالضم معظم الإفك ، وبالكسر البداءة به ، وقيل : هو بالكسر : الإثم . فالمعنى : إن الذي تولى معظم الإفك من العصبة له عذاب عظيم في الدنيا ، أو في الآخرة ، أو فيهما .

واختلف في هذا الذي تولى كبره من عصبة الإفك من هو منهم ؟ فقيل : هو عبد الله بن أبيّ ، وقيل : هو حسان ، والأوّل هو الصحيح . وقد روى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الإفك رجلين وامرأة ، وهم مسطح ابن أثاثة ، وحسان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش . وقيل : جلد عبد الله بن أبيّ ، وحسان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش ، ولم يجلد مسطحاً ، لأنه لم يصرح بالقذف ، ولكن كان يسمع ويشيع من غير تصريح . وقيل : لم يجلد أحداً منهم . قال القرطبي : المشهور من الأخبار ، والمعروف عند العلماء : أن الذين حدّوا : حسان ، ومسطح ، وحمنة . ولم يسمع بحدّ لعبد الله بن أبيّ ، ويؤيد هذا ما في سنن أبي داود عن عائشة ، قالت : لما نزل عذري ، قام النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك ، وتلا القرآن ، فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدّهم ، وسماهم : حسان ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش .

واختلفوا في وجه تركه صلى الله عليه وسلم لجلد عبد الله بن أبيّ ، فقيل : لتوفير العذاب العظيم له في الآخرة ، وحدّ من عداه ليكون ذلك تكفيراً لذنبهم كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الحدود أنه قال : «إنها كفارة لمن أقيمت عليه » وقيل : ترك حدّه تألفاً لقومه ، واحتراماً لابنه ، فإنه كان من صالحي المؤمنين ، وإطفاء لنائرة الفتنة ، فقد كانت ظهرت مباديها من سعد بن عبادة ومن معه كما في صحيح مسلم .

/خ21