فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (11)

{ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ } هذا شروع في الآيات المتعلقة بالإفك ، وهي ثمانية عشر تنتهي بقوله : { أولئك مبرؤن } والإفك أسوأ الكذب وأفحشه وأقبحه وهو مأخوذ من أفك الشيء إذا قلبه عن وجهه ، فالإفك هو الحديث المقلوب ، لكونه مصروفا عن الحق ، وقيل هو البهتان .

وأجمع المسلمون على أن المراد بما في الآية ما وقع من الإفك على عائشة أم المؤمنين ، وإنما وصفه الله بأنه إفك لأن المعروف من حالها رضي الله عنها خلاف ذلك . قال الواحدي : ومعنى القلب في هذا الحديث الذي جاء به أولئك النفر أن عائشة كانت تستحق الثناء بما كانت عليه من الحصانة والشرف والعقل والديانة وعلو النسب والسبب والعفة لا القذف ، فالذين رموها بالسوء قلبوا الأمر عن وجهه فهو إفك قبيح وكذب ظاهر .

{ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ } العصبة الجماعة من العشرة إلى الأربعين ، والمراد بهم هنا عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين وزيد بن رفاعة وحسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم . وقيل العصبة من الثلاثة إلى العشرة . وقيل من عشرة إلى خمسة عشر ، وأصلها في اللغة الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض .

وقد أخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم حديث عائشة الطويل في سبب نزول هذه الآيات بألفاظ متعددة وطرق مختلفة ، حاصله أن سبب النزول هو ما وقع من أهل الإفك الذين تقدم ذكرهم في شأن عائشة ، وذلك أنها خرجت من هودجها تلتمس عقدا لها انقطع من جزع ، فرحلوا وهم يظنون أنها في هودجها فرجعت وقد ارتحل الجيش والهودج معهم ، فأقامت في ذلك المكان ومرّ بها صفوان بن المعطل وكان متأخرا عن الجيش فأناخ راحلته وحملها عليها ، فلما رأى ذلك أهل الإفك قالوا ما قالوا ، فبرأها الله مما قالوا : هذا حاصل القصة مع طولها وتشعب أطرافها فلا نطول بذكر ذلك .

وجملة { لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم } إن كانت خبرا ل { إن } فظاهر ، وإن كان الخبر { عصبة } فهي مستأنفة خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة وأبو بكر وصفوان بن المعطل الذي قذف مع عائشة أم المؤمنين وتسلية لهم ، والضمير المنصوب للإفك ، والشر ما زاد ضره على نفعه .

{ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } الخير ما زاد نفعه على ضره ، وأما الخير الذي لا شر فيه فهو الجنة ، والشر الذي لا خير فيه فهو النار . ووجه كونه خيرا لهم أنه يحصل لهم به الثواب العظيم مع بيان براءة أم المؤمنين عائشة ، وصيرورة قصتها هذه شرعا عاما ، وهذا غاية الشرف والفضل ، وفيه تهويل الوعيد لمن تكلم فيهم ، والثناء على من ظن بهم خيرا .

{ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم } أي من العصبة الكاذبة { مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ } بسبب تكلمه بالإفك { وَالَّذِي تَوَلَّى } أي تحمل { كِبْرَهُ } أي معظمه { مِنْهُمْ } فبدأ بالخوض فيه وأشاعه وهو ابن أبيّ ، قرأ جماعة بضم الكاف . قال الفراء : وهو وجه جيد ، لأن العرب تقول : فلان تولى عظم كذا وكذا ، أي أكبره . وقرئ بكسرها . قيل هما لغتان . وقيل هو بالضم معظم الإفك وبالكسر البداءة به ، وقيل هو بالكسر الإثم .

فالمعنى أن الذي تولى معظم الإفك من العصبة { لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما ، واختلف في هذا الذي تولى كبره من عصبة الإفك من هو منهم ، فقيل هو عبد الله بن أبي ، وقيل هو حسان والأول هو الصحيح ، وقد روى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الإفك رجلين وامرأة ، وهم مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ، وقيل جلد عبد الله بن أبي وحسان وحمنة ولم يجلد مسطحا لأنه لم يصرح بالقذف ، ولكن كان يسمع ويشيع من غير تصريح ، وقيل لم يجلد أحدا منهم .

قال القرطبي : المشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أن الذين حدّوا حسان ومسطح وحمنة ولم يسمع بحد لعبد الله بن أبيّ .

ويؤيد هذا ما في سنن أبي داود عن عائشة قالت : لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك وتلا القرآن ، فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدّهم ، وسماهم حسان ومسطح وحمنة ، واختلفوا في وجه تركه صلى الله صلى الله عليه وسلم لجلد عبد الله بن أبيّ ، فقيل لتوفير العذاب العظيم له في الآخرة ، وحد من عداه ليكون ذلك تكفيرا لذنبهم .

كما ثبت صلى الله عليه وآله وسلم في الحدود أنه قال : " إنها كفارة لمن أقيمت عليه " .

وقيل ترك حده تألفا لقومه واحتراما لابنه ، فإنه كان من صالحي المؤمنين وإطفاء لثائرة الفتنة ، فقد كان ظهرت مباديها من سعد بن عبادة ومن معه ، كما في صحيح مسلم .

وأخرج البخاري وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن الزهري قال : كنت عند الوليد بن عبد الملك فقال : الذي تولى كبره منهم عليّ فقلت : لا ، حدثني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، كلهم سمع عائشة تقول : الذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبيّ قال : فقال لي فما كان جرمه ؟ قلت حدثني شيخان من قومك : أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وأبو بكر ابن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام أنهما سمعا عائشة تقول : كان مسيئا في أمري .

وقال يعقوب بن شيبة{[1280]} في مسنده : دخل سليمان بن يسار على هشام ابن عبد الملك فقال له : يا سليمان الذي تولى كبره من هو ؟ قال ابن أبيّ . قال كذبت هو عليّ ، قال : أمير المؤمنين أعلم بما يقول ، فدخل الزهري فقال : يا ابن شهاب من الذي تولى كبره ؟ فقال : ابن أبيّ ، قال : كذبت ، هو عليّ ، قال : أنا أكذب ، لا أبا لك والله لو نادى مناد من السماء أن الله قد أحل الكذب ما كذبت . حدثني عروة وسعيد وعبد الله وعلقمة عن عائشة : أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي .

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن مسروق قال : " دخل حسان ابن ثابت على عائشة فشبب . وقال :

حصان رزان ما تزن بريبة *** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

قالت : لكنك لست كذلك ، قلت : تدعين مثل هذا يدخل عليك ؟ وقد أنزل الله فيه { وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } فقالت : وأي عذاب أشد من العمى .


[1280]:عبد الله بن محمد بن أبي شيبة.