{ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ } هذا شروع في الآيات المتعلقة بالإفك ، وهي ثمانية عشر تنتهي بقوله : { أولئك مبرؤن } والإفك أسوأ الكذب وأفحشه وأقبحه وهو مأخوذ من أفك الشيء إذا قلبه عن وجهه ، فالإفك هو الحديث المقلوب ، لكونه مصروفا عن الحق ، وقيل هو البهتان .
وأجمع المسلمون على أن المراد بما في الآية ما وقع من الإفك على عائشة أم المؤمنين ، وإنما وصفه الله بأنه إفك لأن المعروف من حالها رضي الله عنها خلاف ذلك . قال الواحدي : ومعنى القلب في هذا الحديث الذي جاء به أولئك النفر أن عائشة كانت تستحق الثناء بما كانت عليه من الحصانة والشرف والعقل والديانة وعلو النسب والسبب والعفة لا القذف ، فالذين رموها بالسوء قلبوا الأمر عن وجهه فهو إفك قبيح وكذب ظاهر .
{ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ } العصبة الجماعة من العشرة إلى الأربعين ، والمراد بهم هنا عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين وزيد بن رفاعة وحسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم . وقيل العصبة من الثلاثة إلى العشرة . وقيل من عشرة إلى خمسة عشر ، وأصلها في اللغة الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض .
وقد أخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم حديث عائشة الطويل في سبب نزول هذه الآيات بألفاظ متعددة وطرق مختلفة ، حاصله أن سبب النزول هو ما وقع من أهل الإفك الذين تقدم ذكرهم في شأن عائشة ، وذلك أنها خرجت من هودجها تلتمس عقدا لها انقطع من جزع ، فرحلوا وهم يظنون أنها في هودجها فرجعت وقد ارتحل الجيش والهودج معهم ، فأقامت في ذلك المكان ومرّ بها صفوان بن المعطل وكان متأخرا عن الجيش فأناخ راحلته وحملها عليها ، فلما رأى ذلك أهل الإفك قالوا ما قالوا ، فبرأها الله مما قالوا : هذا حاصل القصة مع طولها وتشعب أطرافها فلا نطول بذكر ذلك .
وجملة { لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم } إن كانت خبرا ل { إن } فظاهر ، وإن كان الخبر { عصبة } فهي مستأنفة خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة وأبو بكر وصفوان بن المعطل الذي قذف مع عائشة أم المؤمنين وتسلية لهم ، والضمير المنصوب للإفك ، والشر ما زاد ضره على نفعه .
{ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } الخير ما زاد نفعه على ضره ، وأما الخير الذي لا شر فيه فهو الجنة ، والشر الذي لا خير فيه فهو النار . ووجه كونه خيرا لهم أنه يحصل لهم به الثواب العظيم مع بيان براءة أم المؤمنين عائشة ، وصيرورة قصتها هذه شرعا عاما ، وهذا غاية الشرف والفضل ، وفيه تهويل الوعيد لمن تكلم فيهم ، والثناء على من ظن بهم خيرا .
{ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم } أي من العصبة الكاذبة { مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ } بسبب تكلمه بالإفك { وَالَّذِي تَوَلَّى } أي تحمل { كِبْرَهُ } أي معظمه { مِنْهُمْ } فبدأ بالخوض فيه وأشاعه وهو ابن أبيّ ، قرأ جماعة بضم الكاف . قال الفراء : وهو وجه جيد ، لأن العرب تقول : فلان تولى عظم كذا وكذا ، أي أكبره . وقرئ بكسرها . قيل هما لغتان . وقيل هو بالضم معظم الإفك وبالكسر البداءة به ، وقيل هو بالكسر الإثم .
فالمعنى أن الذي تولى معظم الإفك من العصبة { لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما ، واختلف في هذا الذي تولى كبره من عصبة الإفك من هو منهم ، فقيل هو عبد الله بن أبي ، وقيل هو حسان والأول هو الصحيح ، وقد روى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الإفك رجلين وامرأة ، وهم مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ، وقيل جلد عبد الله بن أبي وحسان وحمنة ولم يجلد مسطحا لأنه لم يصرح بالقذف ، ولكن كان يسمع ويشيع من غير تصريح ، وقيل لم يجلد أحدا منهم .
قال القرطبي : المشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أن الذين حدّوا حسان ومسطح وحمنة ولم يسمع بحد لعبد الله بن أبيّ .
ويؤيد هذا ما في سنن أبي داود عن عائشة قالت : لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك وتلا القرآن ، فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدّهم ، وسماهم حسان ومسطح وحمنة ، واختلفوا في وجه تركه صلى الله صلى الله عليه وسلم لجلد عبد الله بن أبيّ ، فقيل لتوفير العذاب العظيم له في الآخرة ، وحد من عداه ليكون ذلك تكفيرا لذنبهم .
كما ثبت صلى الله عليه وآله وسلم في الحدود أنه قال : " إنها كفارة لمن أقيمت عليه " .
وقيل ترك حده تألفا لقومه واحتراما لابنه ، فإنه كان من صالحي المؤمنين وإطفاء لثائرة الفتنة ، فقد كان ظهرت مباديها من سعد بن عبادة ومن معه ، كما في صحيح مسلم .
وأخرج البخاري وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن الزهري قال : كنت عند الوليد بن عبد الملك فقال : الذي تولى كبره منهم عليّ فقلت : لا ، حدثني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، كلهم سمع عائشة تقول : الذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبيّ قال : فقال لي فما كان جرمه ؟ قلت حدثني شيخان من قومك : أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وأبو بكر ابن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام أنهما سمعا عائشة تقول : كان مسيئا في أمري .
وقال يعقوب بن شيبة{[1280]} في مسنده : دخل سليمان بن يسار على هشام ابن عبد الملك فقال له : يا سليمان الذي تولى كبره من هو ؟ قال ابن أبيّ . قال كذبت هو عليّ ، قال : أمير المؤمنين أعلم بما يقول ، فدخل الزهري فقال : يا ابن شهاب من الذي تولى كبره ؟ فقال : ابن أبيّ ، قال : كذبت ، هو عليّ ، قال : أنا أكذب ، لا أبا لك والله لو نادى مناد من السماء أن الله قد أحل الكذب ما كذبت . حدثني عروة وسعيد وعبد الله وعلقمة عن عائشة : أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي .
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن مسروق قال : " دخل حسان ابن ثابت على عائشة فشبب . وقال :
حصان رزان ما تزن بريبة *** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
قالت : لكنك لست كذلك ، قلت : تدعين مثل هذا يدخل عليك ؟ وقد أنزل الله فيه { وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } فقالت : وأي عذاب أشد من العمى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.