قوله تعالى : { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن } ، يعني الأمم الماضية ، والقرن : الجماعة من الناس ، وجمعه قرون ، وقيل : القرن مدة من الزمان ، يقال : ثمانون سنة ، وقيل : ستون سنة ، وقيل : أربعون سنة ، وقيل : ثلاثون سنة ، ويقال : مائة سنة ، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن بسر المازني : إنك تعيش قرناً فعاش مائة سنة ، فيكون معناه على هذه الأقاويل من أهل القرن .
قوله تعالى : { مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم } . أي : أعطيناهم ما لم نعطكم ، وقال ابن عباس : أمهلناهم في العمر مثل قوم نوح ، وعاد ، وثمود . يقال : مكنته ومكنت له . قوله تعالى : { وأرسلنا السماء عليهم مدراراً } يعني : المطر ، مفعال ، من الدر . قال ابن عباس : مدراراً أي : متتابعاً في أوقات الحاجات ، وقوله : " ما لم نمكن لكم " من خطاب التلوين ، رجع من الخبر من قوله : { ألم يروا } إلى خطاب ، كقوله : { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم } [ يونس :22 ] . وقال هل البصرة : أخبر عنهم بقوله : { ألم يروا } وفيهم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ثم خاطبهم معهم ، والعرب تقول : قلت لعبد الله ما أكرمه ؟ وقلت ، لعبد الله ما أكرمك ؟
قوله تعالى : { وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا } خلقنا وابتدأنا .
الجملة بيان لجملة : { فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون } . جاء بيانها بطريقة الاستفهام الإنكاري عن عدم رؤية القرون الكثيرة الذين أهلكتهم حوادث خارقة للعادة يدلّ حالها على أنّها مسلّطة عليهم من الله عقاباً لهم على التكذيب .
والرؤية يجوز أن تكون قلبية ، أي ألم يعلموا كثرة القرون الذين أهلكناهم ، ويجوز أن تكون بصربة بتقدير : ألم يروا آثار القرون التي أهلكناها كديار عاد وحِجْر ثمود ، وقد رآها كثير من المشركين في رحلاتهم ، وحدّثوا عنها الناس حتى تواترت بينهم فكانت بمنزلة المرئي وتحقّقتها نفوسهم .
وعلى كلا الوجهين ففعل { يَرَوا } معلّق عن العمل في المفعولين أو المفعول ، باسم الاستفهام وهو { كم } .
و ( كم ) اسم للسؤال عن عدد مبهم فلا بدّ بعده من تفسير ، وهو تمييزه . كما تقدّم في قوله تعالى : { سَل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية } في سورة البقرة ( 211 ) وتكون خبرية فتدلّ على عدد كبير مبهم ولا بدّ من مفسّر هو تمييز للإبهام . فأمّا الاستهامية فمفسّرها منصوب أو مجرور ، وإن كانت خبرية فمفسّرها مجرور لا غير ، ولمّا كان ( كم ) اسماً في الموضعين كان له موقع الأسماء بحسب العوامل رفعٌ ونصب وجرّ ، فهي هنا في موضع مفعول أو مفعولين { ليرَوا } . و ( مَنْ ) فزائدة جارّة لمميّز { كم } الخبرية لوقوع الفصل بينها وبين مميّزها فإنّ ذلك يوجب جرّه ب ( من ) ، كما بيّناه عند قوله تعالى : { سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بيّنة } في سورة البقرة .
والقرن أصله الزمن الطويل ، وكثر إطلاقه على الأمّة التي دامت طويلاً . قال تعالى : { من بعد ما أهلكنا القرون الأولى } . وفسّر القرن بالأمّة البائدة . ويطلق القرن على الجيل من الأمّة ، ومنه حديث { خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم } . ويطلق على مقدار من الزمن قدره مائة سنة على الأشهر ، وقيل : غير ذلك .
وجملة : { مكّنّاهم } صفة ل { قرن } وروعي في الضمير معنى القرن لأنّه دالّ على جمع .
ومعنى : { مكّنّاهم في الأرض } ثبّتناهم وملّكناهم ، وأصله مشتقّ من المكان . فمعنى مكّنه ومكّن له ، وضع له مكاناً . قال تعالى : { أو لم نمكّن لهم حرماً آمناً } . ومثله قولهم : أرَضَ له . ويكنّى بالتمكين عن الإقدار وإطلاق التصرّف ، لأنّ صاحب المكان يتصرّف في مكانه وبيته ثم يطلق على التثبيت والتقوية والاستقلال بالأمر . ويقال : هو مكين بمعنى مُمَكّن ، فعيل بمعنى مفعول . قال تعالى : { إنّك اليوم لدينا مكين أمين } فهو كناية أيضاً بمرتبة ثانية ، أو هو مجاز مرسل مرتّب على المعنى الكنائي . والتمكين في الأرض تقوية التصرّف في منافع الأرض والاستظهار بأساباب الدنيا ، بأن يكون في منعة من العدوّ وفي سعة في الرزق وفي حسن حال ، قال تعالى : { إمّا مكنّا له في الأرض } ، وقال : { الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة } الآية .
فمعنى مكَّنه : جعله متمكّناً ومعنى مكّن له : جعله متمكّناً لأجله ، أي رعيا له ، مثل حمده وحمد له ، فلم تزده اللام ومجرورها إلاّ إشارة إلى أنّ الفاعل فعل ذلك رغبة في نفع المفعول ، ولكن الاستعمال أزال الفرق بينهما وصيّر مكّنه ومكّن له بمعنى واحد ، فكانت اللام زائدة كما قال أبو علي الفارسي . ودليل ذلك قوله تعالى : هنا { مكّنّاهم في الأرض ما لم نمكّن لكم } فإنّ المراد بالفعلين هنا شيء واحد لتعيّن أن يكون معنى الفعلين مستوياً ، ليظهر وجه فوت القرون الماضية في التمكين على تمكين المخاطبين ، إذ التفاوت لا يظهر إلاّ في شيء واحد ، ولأنّ كون القرون الماضية أقوى تمكّنا من المخاطبين كان يقتضي أن يكون الفعل المقترن بلام الأجل في جانبهم لا في جانب المخاطبين ، وقد عكس هنا . وبهذا البيان نجمع بين قول الراغب باستواء فعل مكّنه ومكّن له ، وقول الزمخشري بأن : مكّن له بمعنى جعل له مكاناً ، ومكّنه بمعنى أثبته . وكلام الراغب أمكن عربية . وقد أهملت التنبيه على هذين الرأيين كتب اللغة . واستعمال التمكين في معنى التثبيت والتقوية كناية أو مجاز مرسل لأنّه يستلزم التقوية . وقد شاع هذا الاستعمال حتى صار كالصريح أو كالحقيقة .
و { ما } موصولة معناها التمكين ، فهي نائبة عن مصدر محذوف ، أي تمكيناً لم نمكنّه لكم ، فتنتصب ( ما ) على المفعولية المطلقة المبيّنة للنوع . والمقصود مكّناهم تمكيناً لم نمكَّنه لكم ، أي هو أشدّ من تمكينكم في الأرض .
والخطاب في قوله : { لكم } التفات موجّه إلى الذين كفروا لأنّهم الممكّنون في الأرض وقت نزول الآية ، وليس للمسلمين يومئذٍ تمكين . والالتفات هنا عكس الالتفات في قوله تعالى : { حتى إذا كنتم في الفلك وجريْن بهم } . والمعنى أنّ الأمم الخالية من العرب البائدة كانوا أشدّ قوة وأكثر جمعاً من العرب المخاطبين بالقرآن وأعظم منهم آثار حضارة وسطوة . وحسبك أنّ العرب كانوا يضربون الأمثال للأمور العظيمة بأنّها عادية أو ثمودية أو سبئية قال تعالى : { وعمروها أكثر ممّا عمروها } أي عمَرَ الذين من قبل أهل العصر الأرض أكثر ممّا عمرها أهل العصر .
والسماء من أسماء المطر ، كما في حديث « الموطأ » من قول زيد بن خالد : صلىّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إثر سماء ، أي عقب مطر . وهو المراد هنا لأنّه المناسب لقوله : { أرسلنا } بخلافه في نحو قوله : { وأنزلنا من السماء ماء } . والمدرار صيغة مبالغة ، مثل منحار لكثير النحر للأضياف ، ومذكار لمن يولد له الذكور ، من درّت الناقة ودرّ الضرع إذا سمح ضرعها باللبن ، ولذلك سمّي اللبن الدّر . ووصفُ المطر بالمدرار مجاز عقلي ، وإنّما المدرار سحابه . وهذه الصيغة يستوي فيها المذكّر والمؤنّث .
والمراد إرسال المطر في أوقات الحاجة إليه بحيث كان لا يخلفهم في مواسم نزوله .
ومن لوازم ذلك كثرة الأنهار والأدية بكثرة انفجار العيون من سعة ري طبقات الأرض ، وقد كانت حالةَ معظم بلاد العرب في هذا الخصب والسعة ، كما علمه الله ودلّت عليه آثار مصانعهم وسدودهم ونسلان الأمم إليها ، ثم تغيّرت الأحوال بحوادث سماوية كالجدب الذي حلّ سنين ببلاد عاد ، أو أرضية ، فصار معظمها قاحلاً فهلكت أممها وتفرّقوا أيادي سَبا .
وقد تقدّم القول في معنى الأنهار تجري من تحتهم في نظيره وهو { أنّ لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار } في سورة البقرة ( 25 ) .
والفاء في قوله : { فأهلكناهم } للتعقيب عُطف على { مكّنّاهم } وما بعده . ولمّا تعلّق بقوله : { فأهلكناهم } قوله : { بذنوبهم } دلّ على أنّ تعقيب التمكين وما معه بالإهلاك وقع بعد أن أذنبوا . فالتقدير : فأذنبوا فأهلكناهم بذنوبهم ، أو فبطروا النعمة فأهلكناهم ، ففيه إيجاز حذف على حدّ قوله تعالى : { أن اضرب بعصاك الحجر فانفجرت } الآية ، أي فضرب فانفجرت الخ . ولك أن تجعل الفاء للتفصيل تفصيلاً ل { أهلكنا } الأول على نحو قوله تعالى : { وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا } في سورة الأعراف ( 4 ) .
والإهلاك : الإفناء ، وهو عقاب للأمّة دالّ على غضب الله عليها ، لأنّ فناء الأمم لا يكون إلاّ بما تجرّه إلى نفسها من سوء فعلها ، بخلاف فناء الأفراد فإنْه نهاية محتّمة ولو استقام المرء طول حياته ، لأنّ تركيب الحيوان مقتض للانتهاء بالفناء عند عجز الأعضاء الرئيسية عن إمداد البدن بمواد الحياة فلا يكون عقاباً إلاّ فيما يحفّ به من أحوال الخزي للهالك .
والذنوب هنا هي الكفر وتكذيب الرسل ونحو ذلك ممّا دلّ عليه التنظير بحال الذين قال الله فيهم هنا : { بربهم يعدلون ثم أنتم تمترون وما تأتيهم من آية من آيات ربّهم إلاّ كانوا عنها معرضين فقد كذبوا بالحقّ لمّا جاءهم } ، وما قاله بعد ذلك { ولو نزّلنا عليك كتاباً في قرطاس } الآية .
وقوله : { وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين } : الإنشاء الإيجاد المبتكَر ، قال تعالى : { إنّا أنشأناهن إنشاء } . والمراد به إنشاؤهم بتلك الصفات التي كان القرن الذين من قبلهم من التمكين في الأرض والإسعاف بالخصب ، فخلفوا القرن المنقرضين سواء كان إنشاؤهم في ديار القوم الذين هلكوا ، كما أنشأ قريشاً في ديار جرهم ، أم في ديار أخرى كما أنشأ الله ثموداً بعد عاد في منازل أخرى . والمقصود من هذا تعريض بالمشركين بأنّ الله مهلكهم ومنشىء من بعدهم قرن المسلمين في ديارهم . ففيه نذارة بفتح مكّة وسائر بلاد العرب على أيدي المسلمين . وليس المراد بالإنشاء الولادة والخلق ، لأنّ ذلك أمر مستمرّ في البشر لا ينتهي ، وليس فيه عظة ولا تهديد للجبايرة المشركين . وأفرد { قرناً } مع أنّ الفعل الناصب له مقيّد بأنّه من بعد جمع القرون ، على تقدير مضاف ، أي أنشأنا من بعد كلّ قرن من المهلكين قرناً آخرين .