تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{أَلَمۡ يَرَوۡاْ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّن قَرۡنٖ مَّكَّنَّـٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَا لَمۡ نُمَكِّن لَّكُمۡ وَأَرۡسَلۡنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡهِم مِّدۡرَارٗا وَجَعَلۡنَا ٱلۡأَنۡهَٰرَ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمۡ فَأَهۡلَكۡنَٰهُم بِذُنُوبِهِمۡ وَأَنشَأۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِمۡ قَرۡنًا ءَاخَرِينَ} (6)

المفردات :

من قرن : القرن ؛ مدة من الزمان يعيش فيها أهل عصر . وقد يطلق على أهله ، وهو المراد هنا ، وأشهر الأقوال أن القرن مائة سنة .

مكناهم في الأرض : أي جعلنا لهم فيها مكانا .

وأرسلنا السماء عليهم مدرارا : أي أرسلنا المطر أو السحاب عليهم كثير الدر بالمطر .

التفسير :

6- ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم . . . الآية . أعموا عن الحق وأعرضوا عن دلائله ولم يروا بتدبر وتفكر ، كم أهلكنا من قبلهم من أقوام كانوا أشد منهم قوة وأكثر جمعا . حيث منحناهم الغنى والسعة والاقتدار على التعميد فعمروا الأرض وبنوا الحصون والقصور .

وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم . عدد الله النعم على هؤلاء السابقين حيث أرسل المطر متتابعا وجعله نافعا بغزارة وكثرة ، وعبر عنه بالسماء لأنه ينزل منها .

وصفهم القرآن هنا بأنهم كانوا منعمين بالمياه الكثيرة التي يسيرون مجاريها كما يشاءون ، فيبنون مساكنهم على ضفافها ، ويتمتعون بالنظر إلى مناظرها الجميلة .

وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم . أي صيرنا الأنهار تجري من تحت مساكنهم . وبين مزارعهم فيمتعون حسن مرآها ، وجمال جريانها ، ولا يجدون صعوبة في الانتفاع بها .

فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين . أي فكفروا بنعمة الله وجحدوا فضل الله عليهم ، فأهلكناهم بسبب ذنوبهم إذ الذنوب سبب الانتقام وزوال النعم .

والإهلاك بسبب الذنوب له مظهران :

أحدهما : أن الذنوب ذاتها تهلك الأمم ، إذ تشيع فيها الترف والغرور والفساد في الأرض ، وبذلك تنحل وتضمحل وتذهب قوتها .

المظهر الثاني : إهلاك الله تعالى لها عقابا على أوزارها ) ( 55 ) .

جاء في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب :

وتفيد الآيات أن الذنوب والفساد سبيل إلى هلاك الأمة والأفراد ، إما بقارعة من الله عاجله كما كان يحدث في التاريخ القديم ، مثل غرق قوم نوح ، وهلاك عاد وثمود ومدين وقوم لوط .

وإما بالانحلال البطيء الفطري الطبيعي الذي يسري في كيان الأمم مع الزمن وهي التوغل في متاهة الذنوب !

( وأمامنا في التاريخ القريب – نسبيا– الشواهد الكافية على فعل الانحلال الأخلاقي ، والدعارة الفاشية ، واتخاذ المرأة فتنة وزينة ، والترف والرخاوة ، والتلهي بالنعيم ، أمامنا الشواهد الكافية من فعل هذا كله ، في انهيار الإغريق والرومان – وقد أصبحوا أحاديث – وفي الانهيار الذي تتجلى أوائله وتلوح نهايته في الأفق في أمم معاصرة ، كفرنسا وانجلترا كذلك – على الرغم القوة الظاهرة والثراء العريض ) ( 56 ) .

وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين . من سنن الله إهلاك المفسدين إما بقارعة وإما بتسليط بعضهم على بعض حتى يهلك الفاسد ، ويتولى الملك قوة جديدة امتحانا وابتلاء لها وقد تكون صالحة أو طالحة ، فالظالم سوط الله في الأرض ينتقم به ثم ينتقم منه قال تعالى : ولو دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض . ( البقرة : 251 ) .

وهلاك المفسد وعقوبة الظالم لا ينقصان من ملك الله تعالى شيئا ، فهو سبحانه كلما أهلك أمة أنشأ من بعدها أخرى وفي الحديث القدسي :

( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أثقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كلا مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا ، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ( 57 ) .

ويقول الله تعالى : وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم . ( محمد : 38 ) .