قوله تعالى : { كَمْ أَهْلَكْنَا } : يجوز في " كم " أن تكون استفهامية وخبرية ، وعلى كلا التقديرين فهي مُعَلِّقةٌ للرؤية عن العمل ، لأن الخبرية تجري مجرى الاستفهامية في ذلك ، ولذلك أُعْطِيت أحكامَها من وجوب التصدير وغيره . والرؤيةُ هنا عِلْميَّة ، ويَضْعُفُ كونها بصرية ، وعلى كلا التقديرين فهي معلَّقة عن العمل ، لأنَّ البَصَرية تجري مجراها ، فإن كانت عِلْميَّةً ف " كم " وما في حيِّزها سادَّةٌ مَسدَّ مفعولين ، وإن كانت بصرية فمسدَّ واحد .
و " كم " يجوز أن تكون عبارة عن الأشخاص فتكونَ معفولاً بها ناصبها " أَهْلَكْنا " و " مِنْ قَرْنٍ " على هذا تمييز لها ، وأن تكون عبارةً عن المصدر فتنتصبَ انتصابَه بأهْلَكْنا ، أي إهلاكاً ، و " مِنْ قرن " على هذا صفةٌ لمفعول " أَهْلَكْنا " أي أهلكنا قوماً أو فوجاً من القرون ؛ لأنَّ قرناً يراد به الجمع ، و " مِنْ " تبعيضية ، والأُولى لابتداء الغاية . وقال الحوفي : " من " الثانية بدل من " مِنْ " الأولى وهذا لا يُعْقل فهو وَهْمٌ بَيِّنٌ ، ويجوز أن تكون " كم " عبارة عن الزمان فتنتصب على الظرف . قال أبو البقاء : " تقديره : كم أزمنةٍ أهلكنا فيها " وجعل أبو البقاء على هذا الوجه " من قرن " هو المفعول به و " مِنْ " مزيدة فيه وجاز ذلك لأن الكلام غير موجب والمجرور نكرة . إلا أن الشيخ منع ذلك بأنه لا يقع إذ ذاك المفردُ موقعَ الجمع لو قلت : [ " كم أزماناً ضربتُ رجلاً ، أو كم مرةً ضربتُ رجلاً " لم يكن مدلولُ رجل رجالاً ] ، لأن السؤال إنما يقع عن عدد الأزمنة أو المرات التي ضربت فيها ، وبأن هذا ليس [ موضعَ زيادة " مِنْ " لأنها لا تُزاد في الاستفهام ] ، إلا وهو استفهام مَحْضٌ أو يكونُ بمعنى النفي ، والاستفهام هنا ليس مَحْظَاً ولا مُراداً به النفيُ . [ انتهى . والجواب عمَّا قاله : لا نُسَلِّم ذلك ] .
قوله : { مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ } في موضع جر صفةً ل " قَرْن " وعاد الضميرُ عليه جمعاً باعتبار معناه ، قاله أبو البقاء والحوفي ، وضَعَّفه الشيخ بأنَّ " مِنْ قرن " تمييز ل " كم " ف " كم " هي المحدِّث عنها بالإِهلاك ، فهي المُحَدَّثُ عنها بالتمكين لا ما بعدها ، إذ " من قرن " يجري مجرى التبيين ، ولم يُحَدَّثْ عنه . وجَوَّز الشيخ أن تكون هذه الجملة استنئافاً جواباً لسؤالٍ مقدَّر ، قال كأنه قيل : ما كان من حالهم ؟ فقيل : مكَّنَّاهم ، وجعله هو الظاهر . وفي نظر ، فإن النكرة مفتقرةٌ للصفة فَجَعْلُها صفةً أَلْيَق .
والفرق بين قوله { مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ } [ وقوله ] : " ما لم نمكِّن لكم " أنَّ " مَكَّنه في كذا " : أَثْبته فيها ، ومنه :
{ وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ } [ الأحقاف : 26 ] وأمَّا مكَّن له فمعناه جعل له مكاناً ومنه ، { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ } [ الكهف : 84 ] { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ } [ القصص : 57 ] ، ومثله : " أَرَضَ له " أي جعل له أرضاً ، هذا قول الزمخشري . وأمَّا الشيخ فإنه يظهر من كلامه التسوية بينهما فإن قال : " وتَعَدِّي مَكَّن هنا للذوات بنفسه وبحرف الجر ، والأكثرُ تعديتُه باللام : { مَكَّنَّا لِيُوسُفَ } [ يوسف : 21 ] { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ } [ الكهف : 84 ]
{ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ } [ القصص : 57 ] . وقال أبو عبيدة : " مكَّنَّاهم ومكَّنَّاهم لهم : لغتان فصيحتان نحو : نَصَحْتُه ونَصَحْتُ له " . [ قلت : وبهذا قال ] أبو علي والجرجاني .
قوله : { مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ } في " ما " هذه خمسة أوجه ، أحدها : أن تكون موصولةً بمعنى الذي ، وهي حينئذ صفة لموصوف محذوف ، والتقدير : التمكين الذي لم نمكِّن لكم ، والعائد محذوف أي : الذي لم نمكَّنه لكم . الثاني : أنها نكرةٌ صفةٌ لمصدر محذوف تقديره : تمكيناً ما لم نمكِّنه لكم ، ذكرهما الحوفي . وردَّ الشيخ الأول بأن " ما " بمعنى الذي لا تكون صفةً لمعرفة وإن كان " الذي " يقع صفة لها ، ولو قلت : " ضربت الضرب ما ضَرَبَ زيدٌ " تريد الضربَ الذي ضربه زيد ، لم يجز ، فإن قلت : " الضرب الذي ضربه زيد " جاز . ورَدَّ الثاني بأن " ما " النكرة التي تقع صفةً لا يجوز حَذْفُ موصوفِها ، لو قلت : " قمت ما وضربت ما " وأنت تعني : قمت قياماً ما ، وضرباً ما ، لم يجز " .
الثالث : أن تكون مفعولاً بها ل " مَكَّن " على المعنى ، لأن معنى مكَّنَّاهم : أعطيناهم ما لم نُعْطِكُمْ ، ذكره أبو البقاء قال الشيخ : " هذا تضمينٌ ، والتضمين لا ينقاس " الرابع : أن تكون " ما " مصدريةً ، والزمان محذوف ، أي : مدةَ ما لم نمكِّن لكم ، والمعنى : مدة انتفاء التمكين لكم . الخامس : أن تكون نكرةً موصوفة بالجملة المنفيَّة بعدها والعائد محذوف ، أي : شيئاً لم نمكِّنْه لكم ، ذكرهما أيضاً أبو البقاء قال الشيخ في الأخير : " وهذا أقرب إلى الصواب " قلت : ولو قدَّره أبو البقاء بخاص لكان أحسن من تقديره بلفظ شيء فكان يقول : مكنَّاهم تمكيناً لم نمكنه لكم .
والضمير في " يروا " قيل : عائد على المستهزئين ، والخطاب في " لكم " راجع إليهم أيضاً فيكون على هذا التفاتاً فائدتُه التعريض بقلَّة تمكُّن هؤلاء ونَقْصِ أحوالهم عن حال أولئك ، ومع تمكينهم وكثرتهم فقد حَلَّ بهم الهلاك فكيف وأنتم أقلُّ منهم تمكيناً وعَدَداً ؟ وقال ابن عطية : " والمخاطبة في " لكم " هي للمؤمنين ولجميع المعاصرين لهم ولسائر الناس كافة ، كأنه قيل : ما لم نمكِّن يا أهل هذا العصر لكم ، ويحتمل أن يُقَدِّر معنى القول لهؤلاء الكفرة ، كأنه قال : يا محمد قل لهم : ألم يروا كم أهلكنا الآية ، فإذا أخبرت أنك قُلْتَ - أو أَمَرْتَ أن يقال - فَلَكَ في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها فتجيءَ بلفظ المخاطبة ، ولك أن تجيء بالمعنى في الألفاظ بالغيبة دون الخطاب " .
انتهى ومثاله : " قلت لزيد : ما أكرمك ، أو ما أكرمه " .
والقَرْن : لفظ يقع على معانٍ كثيرة ، فالقرن : الأمَّة من الناس ، سمُّوا بذلك لاقترانهم في مدة من الزمان ، ومنه قوله عليه السلام : " خيرُ القرون قرني " . وقال الشاعر :
أُخَبِّرُ أخبارَ القُرونِ التي مَضَتْ *** أَدِبُّ كاني كلما قُمْتُ راكِعُ
في الذاهبين الأوَّلِي *** نَ من القرون لنا بصائِرْ
وقيل : أصله الارتفاع ، ومنه قَرْنُ الثور وغيره ، فَسُمُّوا بذلك لارتفاع السنِّ . وقيل : لأن بعضهم يُقْرَن ببعض ويُجعل مجتمعاً معه ، ومنه القَرَن للحَبْلِ يُجمع به بين البعيرين ، ويُطلق على المدة من الزمان أيضاً .
وهل إطلاقه على الناس والزمان بطريق الاشتراك أو الحقيقة والمجاز ؟ الراجح الثاني ؛ لأن المجازَ خيرٌ من الاشتراك . وإذا قلنا بالراجح فإنها الحقيقة ، الظاهر أنه القوم لأنَّ غالبَ ما يُطلق عليهم ، والغَلَبة مؤذنةٌ بالأصالة غالباً . وقال ابن عطية : " القرن أن يكون وفاة الأشياخ وولادة الأطفال ، ويَظْهر ذلك من قوله تعالى : { وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } فجعله معنى ، وليس بواضح . وقيل : القرن : الناس المجتمعون ، قلَّت السنون أو كَثُرت ، واستدلوا بقوله عليه السلام : " خيرُ القرونِ قَرْني " وبقوله :
في الذاهبين الأوَّلي *** نَ من القرون لنا بصائرْ
إذا ذَهَبَ القومُ الذي كنتَ فيهمُ *** وخُلِّفْتَ في قَرْن فأنت غريبُ
فأطلقوه على الناس بقيد الاجتماع . ثم اختلف الناس في كمية القرن حالة إطلاقه على الزمان فالجمهور أنه مئة سنة ، واستدلوا له بقوله عليه السلام : " يعيش قرناً " فعاش مائة سنة . وقيل : مئة وعشرون قاله إياس بن معاوية وزارة بن أبي أوفى . وقيل : ثمانون نقله صالح عن ابن عباس : وقيل : سبعون قاله الفراء . وقيل : ستون لقوله عليه السلام : " معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين " وقيل : أربعون ، حكاه محمد بن سيرين ، يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك الزهراوي أيضاً يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : ثلاثون حكان النقاش عن أبي عبيدة ، كانوا يرون أن ما بين القرنين ثلاثون سنة . وقيل : عشرون ، وهو رأي الحسن البصري . وقيل : ثمانية عشر عاماً . وقيل : هو المقدار الوسط من أعمار أهل ذلك الزمان ، واستحسن هذا بأنَّ أهل الزمن القديم كانوا يعيشون أربع مئة سنة وثلاث مائه وألفاً وأكثر وأقل .
وقدَّر بعض الناس في قوله تعالى : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ } أهلاً ، أي : أهل قرن ؛ لأنَّ القرنَ الزمانُ ، ولا حاجة إلى ذلك إلا على اعتقاد أنه حقيقةٌ فيه ، مجاز في الناس ، وقد قدَّمْتُ أن الراجحَ خلافُه .
قوله : { مَّدْرَاراً } حال من " السماء " إن أريد بها السحابُ ، فإنَّ السحابَ يوصفُ بكثرة التتابع أيضاً ، وإن أريد به الماء فكذلك . ويدلُّ على أنه يراد به الماءُ قولُه في الحديث " في أثر سماء كانت من الليل " ويقولون : ما نزلنا نطأ السماء حتى أتيناكم ، ومنه :
إذا نَزَل السماءُ بأرضِ قومٍ *** رَعَيْناه وإن كانوا غضابا
أي : رَعَيْنا ما ينشأ عنه . وإن أريد بها هذه المِظَلَّةُ فلا بد من حذف مضافٍ حينئذ أي : مطر السماء ، ويكون " مدراراً " حالاً منه . ومدرار مِفْعال وهو للمبالغة كامرأة مِذْكار ومِئْناث . قالوا : وأصله مِن " دَرِّ اللبن " وهو كثرةُ ورودِه على الحالِب ومنه : " لا درَّ درُّه " في الدعاء عليه بقلة الخير . وفي المثل : " سبقَتْ دِرَّتُ غِرارَه " وهي مثلُ قولهم : " سبقَ سيلُه مَطَرَه " . واستدَّرت المِعْزى كناية عن طلبها الفحل ، قالوا : لأنَّها إذا طَلَبَتْه حَمَلَتْ فَوَلَدَتْ فَدَرَّت .
قوله : { تَجْرِي } إنْ جعلنا " جَعَلَ " تصييرية كان " تجري " مفعولاً ثانياً ، وإن جعلناها إيجادية كان حالاً . و " من تحتهم " يجوز فيه أوجه : أن يكون متعلقاً ب " تجري " ، وهذا هو الذي ينبغي أن لا يُعْدَلَ عنه ، وأن يكون حالاً : إمَّا من فاعل " تجري " أو من " الأنهار " وأن يكون مفعولاً ثانياً ل " جعلنا " ، و " تجري " على هذا حال من الضمير في الجار ، وفيه ضعف لتقدُّمها على العامل المعنوي ، ويجوز أن يكون " من تحتهم " حالاً من " الأنهار " كما تقدَّم ، و " تجري " حال من الضمير المستكنِّ فيه ، وفيه الضعف المتقدم .
قوله : { مِن بَعْدِهِمْ } متعلق ب " أنشأنا " قال أبو البقاء : " ولا يجوز أن يكون حالاً من " قرن " لأنه ظرف زمان " يعني أنه لو تأخر عن قرن لكان يُتَوَهَّم جوازُ كونه صفةً له ، فلما قُدِّم عليه قد يوهم أن يكون حالاً منه ، لكنه منع ذلك كونُه ظرفَ زمان ، والزمان لا يُخبر به عن الجثث ولا يوصف به ، وقد تقدم لك أنه يصِحُّ ذلك بتأويلٍ ذكرته في البقرة عند قوله : { وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [ الآية : 21 ] . و " آخرين " صفة ل " قَرْن " لأنه اسم جمعٍ كقوم ورهط ، فلذلك اعتُبر معناه ، ومن قال : إنه الزمان قَدَّر مضافاً أي : أهل قرن آخرين ، وقد قَدَّمْتُ أنَّه مرجوح .