الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{أَلَمۡ يَرَوۡاْ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّن قَرۡنٖ مَّكَّنَّـٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَا لَمۡ نُمَكِّن لَّكُمۡ وَأَرۡسَلۡنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡهِم مِّدۡرَارٗا وَجَعَلۡنَا ٱلۡأَنۡهَٰرَ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمۡ فَأَهۡلَكۡنَٰهُم بِذُنُوبِهِمۡ وَأَنشَأۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِمۡ قَرۡنًا ءَاخَرِينَ} (6)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم وعظهم ليخافوا، فقال: {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم}، كفار مكة، {من قرن} من أمة، {مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم}: أعطيناهم من الخير والتمكين في البلاد ما لم نعطكم يا أهل مكة، {وأرسلنا السماء عليهم مدرارا} بالمطر، يعني متتابعا، {وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم}، يعني فعذبناهم، {بذنوبهم}: بتكذيبهم رسلهم، {وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين}: وخلقنا من بعد هلاكهم قوما آخرين.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم ير هؤلاء المكذّبون بآياتي الجاحدون نبوّتك، كثرة من أهلكت من قبلهم من القرون، وهم الأمم الذين وطأت لهم البلاد والأرض وطأة لم أوطئها لكم، وأعطيتهم فيها ما لم أعطكم... أمطرت فأخرجت لهم الأشجار ثمارها، وأعطتهم الأرض رَيْع نباتها، وجابوا صخور جبالها، ودرّت عليهم السماء بأمطارها، وتفجرت من تحتهم عيون المياه بينابيعها بإذني، فغمطوا نعمة ربهم وعصوا رسول خالقهم وخالفوا أمر بارئهم، وبغوا حتى حُقّ عليهم قولي، فأخذتهم بما اجترحوا من ذنوبهم وعاقبتهم بما اكتسبت أيديهم، وأهلكت بعضهم بالرجفة وبعضهم بالصيحة وغير ذلك من أنواع العذاب.

ويعني بقوله: «مدرارا»: غزيرة دائمة.

"وأنْشَأْنَا مِنَ بَعْدِهِمْ قَرْنا آخَرِينَ": وأحدثنا من بعد الذين أهلكناهم قرنا آخرين فابتدأنا سواهم.

فإن قال قائل: فما وجه قوله: "مَكنّاهُمْ فَي الأرْضِ ما لَمْ نُمَكّنْ لَكُمْ "ومن المخاطب بذلك؟ فقد ابتدأ الخبر في أوّل الآية عن قوم غيب بقوله: "ألَمْ يَرَوْا كَم أهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ"؟ قيل: إن المخاطب بقوله: "ما لَمْ نُمَكّنْ لَكُمْ "هو المخبر عنهم بقوله: "ألَمْ يَرَوُا كَمْ أهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ" ولكن في الخبر معنى القول، ومعناه: قل يا محمد لهؤلاء القوم الذين كذّبوا بالحقّ لما جاءهم: "ألَمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْن مَكَنّاهُمْ في الأرْضِ ما لَمْ نُمْكّنْ لَكُمْ"؛ والعرب إذا أخبرت خبرا عن غائب وأدخلت فيه قولاً فعلت ذلك فوجهت الخبر أحيانا إلى الخبر عن الغائب، وأحيانا إلى الخطاب، فتقول: قلت لعبد الله: ما أكرمه، وقلت لعبد الله: ما أكرمك، وتخبر عنه أحيانا على وجه الخبر عن الغائب ثم تعود إلى الخطاب، وتخبر على وجه الخطاب له ثم تعود إلى الخبر عن الغائب...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم} قال بعضهم: أعطيناهم من الخير والسعة والأموال ما لم نمكن لكم يا أهل مكة، أي لم نعطكم، ثم إذا كذبوا الرسل أهلكهم الله تعالى، وعاقبهم بأنواع العقوبة.

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

{أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ} يعني الأمم الماضية والقرن: الجماعة من الناس وجمعه قرون...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

يعني مَنْ تَقَدَّمَهُم كانوا أشدَّ تمكناً في إمهالنا، وأكثرَ نصيباً -في الظاهر- من أقوالنا؛ سهَّلنا لهم أسبابَ المعاش، ووسَّعنا عليهم أبواب الانتعاش، فحين وَطَّنُوا على كواذب المنى قلوبَهم، وأدركوا من الدنيا محبوبهم ومطلوبَهم فتحنا عليهم من مكامن التقدير، وأبرزنا لهم من غوامض الأمور ما فزعوا عليه من النَّدّم، وذاقوا دونه طعم الألم. ثم أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين، وأورثناهم مساكنهم، وأسكناهم أماكنهم، فلمَّا انخرطوا -في الغيّ- عن سلكهم، ألحقناهم في الإهلاك بهم،سُنَّةً منا في الانتقام قضيناها على أعدائنا، وعادةً في الإكرام أجريناها لأوليائنا.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

مكن له في الأرض: جعل له مكاناً فيها. ونحوه: أرّض له. ومنه قوله: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض} [الكهف: 84] {أَوَ لَمْ نُمَكّن لَّهُمْ} [القصص: 57] وأمّا مكنته في الأرض فأثبته فيها. ومنه قوله: {وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ} [الأحقاف: 26] ولتقارب المعنيين جمع بينهما في قوله: {مكناهم فِي الأرض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ} والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عاداً وثمود وغيرهم، من البسطة في الأجسام، والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا. والسماء المظلة؛ لأن الماء ينزل منها إلى السحاب، أو السحاب أو المطر. والمدرار: المغزار.

فإن قلت: أي فائدة في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم؟ قلت: الدلالة على أنه لا يتعاظمه أن يهلك قرناً ويخرب بلاده منهم؟ فإنه قادر على أن ينشئ مكانهم آخرين يعمر بهم بلاده، كقوله تعالى: {وَلاَ يَخَافُ عقباها} [الشمس: 15].

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

هذا حض على العبرة، والرؤية هنا رؤية القلب، والقرن: الأمة المقترنة في مدة من الزمان، ومنه قوله عليه السلام: (خير الناس قرني) الحديث، واختلف الناس في مدة القرن كم هي؟ فالأكثر على أنها مائة سنة، ويرجح ذلك الحديث الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» قال ابن عمر: يريد أنها تخرم ذلك القرن، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن بشر: تعيش قرناً، فعاش مائة سنة، وقيل: القرن ثمانون سنة، وقيل سبعون وقيل ستون، وتمسك هؤلاء بالمعترك وحكى النقاش أربعين، وذكر الزهراوي في ذلك أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحكى النقاش أيضاً ثلاثين، وحكى عشرين، وحكى ثمانية عشر وهذا كله ضعيف، وهذه طبقات وليست بقرون إنما القرن أن يكون وفاة الأشياخ ثم ولادة الأطفال، ويظهر ذلك من قوله تعالى: {ثم أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين}، وإلى مراعاة الطبقات وانقراض الناس بها أشار ابن الماجشون في الواضحة في تجويز شهادة السماع في تقادم خمسة عشر عاماً فصاعداً، وقيل القرن الزمن نفسه، وهو على حذف مضاف تقديره من أهل قرن، والضمير في {مكناهم} عائد على القرن، والمخاطبة في {لكم} هي للمؤمنين ولجميع المعاصرين لهم من سائر الناس، فكأنه قال: ما لم نمكن يا أهل العصر لكم، فهذا أبين ما فيه، ويحتمل أن يقدر في الآية معنى القول لهؤلاء الكفرة، كأنه قال يا محمد قل لهم: {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض، ما لم نمكن لكم} وإذا أخبرت أنك قلت لغائب أو قيل له أو أمرت أن يقال ذلك في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها فتجيء بلفظ المخاطبة، ولك أن تأتي بالمعنى في الألفاظ بذكر غائب دون مخاطبة. و {السماء}: المطر.

و {مدراراً} بناء تكثير كمذكار ومئناث، ومعناه يدر عليهم بحسب المنفعة، لأن الآية إنما سياقها تعديد النعم وإلا فظاهرها يحتمل النعمة ويحتمل الإهلاك، وتحتمل الآية أن تراد السماء المعروفة على تقدير وأرسلنا مطر السماء لأن مدراراً لا يوصف به إلا المطر، وقوله تعالى: {فأهلكناهم} معناه فعصوا وكفروا {فأهلكناهم}، {وأنشأنا} اخترعنا وخلقنا، وجمع {آخرين} حملاً على معنى القرن.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

فإن قيل: ما القرن؟ قلنا قال الواحدي: القرن: القوم المقترنون في زمان من الدهر، فالمدة التي يجتمع فيها قوم ثم يفترقون بالموت فهي قرن، لأن الذين يأتون بعدهم أقوام آخرون اقترنوا فهم قرن آخر...قوله {وجعلنا الأنهار تجرى من تحتهم} والمراد منه كثرة البساتين. واعلم أن المقصود من هذه الأوصاف أنهم وجدوا من منافع الدنيا أكثر مما وجده أهل مكة، ثم بين تعالى أنهم مع مزيد العز في الدنيا بهذه الوجوه ومع كثرة العدد والبسطة في المال والجسم جرى عليهم عند الكفر ما سمعتم وهذا المعنى يوجب الاعتبار والانتباه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة.

بقي هاهنا سؤالات:...

السؤال الثاني: كيف قال {ألم يروا} مع أن القوم ما كانوا مقرين بصدق محمد عليه السلام فيما يخبر عنه وهم أيضا ما شاهدوا وقائع الأمم السالفة؟.

والجواب: أن أقاصيص المتقدمين مشهورة بين الخلق فيبعد أن يقال إنهم ما سمعوا هذه الحكايات ولمجرد سماعها يكفي في الاعتبار.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما أخبر بتكذيبهم على هذا الوجه وتوعدهم بتحتم تعذيبهم، أتبعه ما يجري مجرى الموعظة والنصيحة، فعجب من تماديهم مع ما علموا من إهلاك من كان أشد منهم قوة وأكثر جمعاً وجنى من سوابغ النعم بما لم يعتبروه فيه مع ما ضموه إلى تحقق أخبارهم من مشاهدة آثارهم وعجيب اصطناعهم في أبنيتهم وديارهم مستدلاً بذلك على تحقيق ما قبله من التهديد على الاستهزاء، فقال مقرراً منكراً موبخاً معجباً: {ألم يروا} ودل على كثرة المخبر عنهم تهويلاً للخبر بقوله: {كم أهلكنا) ولما كان المراد ناساً معينين لم يستغرقوا زمن القبل، وهم أهل المكنة الزائدة كقوم نوح وهود وصالح، أدخل الجار فقال: {من قبلهم} وبيَّنَ {كم} بقوله: {من قرن} أي جماعة مقترنين في زمان واحد، وهم أهل كل مائة سنة -كما صححه القاموس لقول النبي صلى الله عليه وسلم لغلام:"عش قرناً"، فعاش مائة. هذا نهاية القرن، والأقرب أنه لا يتقدر، بل إذا انقضى أكثر أهل عصر قيل: انقضى القرن، ودل على ما شاهدوا من آثارهم بقوله: {مكناهم} أي ثبتناهم بتقوية الأسباب من البسطة في الأجسام والقوة في الأبدان والسعة في الأموال {في الأرض} أي بالقوة والصحة والفراغ ما لم نمكنكم، ومكنا لهم بالخصب والبسطة والسعة {ما لم نمكن} أي تمكيناً لم نجعله {لكم} أي نخصكم به، فالآية من الاحتباك أو شبهه، والالتفات من الغيبة إلى الخطاب لئلا يلتبس الحال، لأن ضمير الغائب يصلح لكل من المفضول و الفاضل، ولا يُبقي اللبس التعبيرُ بالماضي في قوله {وأرسلنا السماء} أي المطر تسمية للشيء باسم سببه أو السحاب {عليهم}. ولما كان المراد المطر، كان التقدير: حال كونه {مدراراً} أي ذا سيلان غزير متتابع لأنه صفة مبالغة من الدر، قالوا: ويستوي فيه المذكر والمؤنث. ولما ذكر نفعهم بماء السماء، وكان غير دائم، أتبعه ماء الأرض لدوامه وملازمته للبساتين والرياض فقال: {وجعلنا الأنهار تجري} ولما كان عموم الماء بالأرض وبُعده مانعاً من تمام الانتفاع بها، أشار إلى قربه وعدم عموم الأرض به بالجار فقال: {من تحتهم} أي على وجه الأرض وأسكناه في أعماقها فصارت بحيث إذا حفرت نَبَعَ منها من الماء ما يجري منه نهر. ولما كان من المعلوم أنه من الماء كل شيء حي، فكان من أظهر الأشياء أنه غزر نباتهم واخضرت سهولهم وجبالهم، فكثرت زروعهم وثمارهم، فاتسعت أحوالهم وكثرت أموالهم فتيسرت آمالهم، أعلم سبحانه أن ذلك ما كان إلاّ لهوانهم استدراجاً لهم بقوله مسبباً عن ذلك: {فأهلكناهم} أي بعظمتنا {بذنوبهم} أي التي كانت عن بطرهم النعمةَ ولم نبال بهم و لا أغنت عنهم نعمهم. ولما كان الإنسان ربما أبقى على عبده أو صاحبه خوفاً من الاحتياج إلى مثله، بين أنه سبحانه غير محتاج إلى شيء فقال: {وأنشأنا} ولما كان سبحانه لم يجعل لأحد الخلد، أدخل الجار فقال: {من بعدهم} أي فيما كانوا فيه {قرناً} ودل على أنه لم يُبق من المهلكين أحداً، وأن هذا القرن الثاني لا يرجع إليهم بنسب بقوله: {آخرين} ولم ينقص ملكُنا شيئاً، فاحذروا أن نفعل بكم كما فعلنا بهم، وهذه الآية مثل آية الروم {أو لم يسيروا في الأرض} [الروم: 9]- الآية، فتمكينهم هو المراد بالشدة هناك، والتمكين لهم هو المراد بالعمارة، والإهلاكُ بالذنوب هو المراد بقوله {فما كان الله ليظلمهم} [الروم: 9] و [التوبة: 70] -إلى آخر الآيتين...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم} الرؤية هنا علمية، و (القرن) من الناس القوم المقترنون في زمن واحد، جمعه قرون، وقد استعمل في القرآن بهذا المعنى مفردا وجمعا، واختلف في الزمن المحدد بقرن فأوسط الأقوال إنه سبعون أو ثمانون سنة، وقيل مئة أو أكثر وقيل ستون أو أربعون، والمعقول أنه مقدار متوسط أعمار الناس في كل زمان. وذهب بعضهم إلى تحديد القرن بالحالة الاجتماعية التي يكون عليها القوم، فقال الزجاج: إنه عبارة عن أهل عصر فيهم نبي أو فائق في العلم، أي أو ملك من الملوك، وهذا أقرب إلى استعمال القرآن، فالظاهر أن قوم نوح قرن وإن امتد زمنه بهم زهاء ألف سنة، وقوم عاد قرن وقوم صالح قرن. ويطلق القرن على الزمن نفسه والمشهور في عرف الكتاب اليوم أن القرن مئة سنة...

والإرسال والإنزال متقربان في المعنى لأن اشتقاق الإرسال من رسل اللبن وما ينزل من الضرع متتابعا، وقال الراغب: أصل الرسل الانبعاث على التؤدة يقال ناقة رسلة سهلة السير، وإبل مراسيل-منبعثة انبعاثا سهلا، ومنه رسول المنبعث.

ثم ذكر أن الإرسال يكون ببعث من له اختيار كإرسال الرسل، بالتسخير كإرسال الريح والمطر، وبترك المنع نحو قوله: {أرسلنا الشياطين على الكافرين} [مريم:83] ويستعمل فيما يقابل الإمساك نحو « وما يمسك فلا مرسل له» والكلام استئناف لبيان ما توعدهم به، وكونه مما سبقت به سنته في المكذبين من أقوام الأنبياء.

والمعنى: ألم يعلم هؤلاء الكفار المكذبون بالحق كم أهلكنا من قبلهم من قوم أعطيناهم من التمكين والاستقلال في الأرض وأسباب التصرف فيها ما لم نعطهم هم مثله، ثم لم تكن تلك المواهب والنعم بمانعة لهم من عذابنا لما استحقوه بذنوبهم {أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر} [القلم: 43]؟ لا هذا ولا ذاك، إما الإيمان وإما الهلاك-وكان الظاهر أن يقال: مكناهم في الأرض-أي القرون-ما لم نمكنهم- أي الكفار المحكي عنهم المستفهم عن حالهم. فعدل عن ذلك بالالتفات عن الغيبة إلى الخطاب لما في إيراد الفعلين بضميري الغيبة من إيهام اتحاد مرجعهما وكون المثبت عين المنفي، فقيل ما لم نمكن لكم: وإنما لم يقل: « ما لم نمكنكم» أو « ومكنا لهم ما لم نمكن لكم»-وهو مقتضى المطابقة-لنكتة دقيقة لا يدركها لا من فقه الفرق بين مكنه ومكن له وقد غفل عنه جماهير أهل اللغة والتفسير، والتحقيق أن معنى مكنه في الأرض أو في الشيء-جعله متمكنا من التصرف تام الاستقلال فيه. وأما مكن له فقد استعمل في القرآن مع التصريح بالمفعول به ومع حذفه، فالأول كقوله تعالى: {وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم} [النور: 55] وقوله: {أولم نمكن لهم حرما آمنا} [القصص: 57] والثاني قوله تعالى {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض} [يوسف:21] وقوله في ذي القرنين: {إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا} [الكهف: 84] فلا بد في مثل هذا من تقدير المفعول المحذوف مع مراعاة ما يناسب ذلك من نكت الحذف ككون المفعول في هاتين الآيتين عاما يتناول كل ما يصلح للمقام، كان يقال مكنا ليوسف ولذي القرنين في الأرض جميع أسباب الاستقلال في التصرف.

إذا فقهت هذا فاعلم أن في هذه الآية احتباكا تقديره « مكناهم في الأرض ما لم نمكنكم، ومكنا لهم ما لم نمكن لكم» ومعنى الأول أنهم كانوا أشد منكم قوة وتمكنا في أرضهم، فلم يكن يوجد حولهم من يضارعهم في قوتهم، ويقدر على سلب استقلالهم، ومعنى الثاني أننا أعطيناهم من أسباب التمكن في الأرض وضروب التصرف وأنواع النعم ما لم نعطكم. فحذف من كل من المتقابلين ما أثبت نظيره في الآخر، وهذا من أعلى فنون الإيجاز، الذي وصل في القرآن إلى أوج الإعجاز، ويصدق كل من المتمكنين على قوم عاد وثمود وقوم فرعون وغيرهم كما يعلم من قصص الرسل في القرآن ومن التاريخ العام.

ثم عطف على هذا ما امتازت به تلك القرون على كفار قريش من النعم الإلهية الخاصة بمواقع بلادهم من الأرض فقال: {وأرسلنا السماء عليهم مدرارا} إرسال السماء عبارة عن إنزال المطر، والمدرار الغزير كما تقدم {وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم} أي وسخرنا لهم الأنهار-وهي مجاري المياه الفائضة-وهديناهم إلى الاستمتاع بها بجعلها تجري دائما من تحت مساكنهم التي يبنونها على ضفافها، أو في الجنات والحدائق التي تتفجر خلالها، فيتمتعون بالنظر إلى جمالها، وبسائر ضروب الانتفاع من أموالها.

{فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين (6)} أي فكان عاقبة أمرهم لما كفروا بتلك النعم وكذبوا الرسل أن أهلكنا كل قرن منهم بسبب ذنوبهم التي كانوا يقترفونها، وأنشأنا أي أوجدنا من بعد الهالكين من كل منهم قرنا آخرين يعمرون البلاد ويكونون أجدر بشكر نعم الله عليهم فيها، والذنوب التي يهلك الله بها القرون ويعذب بها الأمم قسمان: أحدهما: معاندة الرسل والكفر بما جاءوا به. وثانيهما: كفر النعم بالبطر والأشر وغمط الحق واحتقار الناس وظلم الضعفاء، ومحاباة الأقوياء، والإسراف في الفسق والفجور، والغرور بالغنى والثروة، فهذا كله من الكفر بنعم الله واستعمالها في غير ما يرضيه من نفع الناس والعدل العام.

والآيات الناطقة بتلك الذنوب مجتمعة ومتفرقة كثيرة كقوله تعالى: {وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين*وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلكها ظالمون} [القصص: 58، 59] {وكذلك أخذ ربك القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد} [هود: 102] {ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} [النحل: 112] {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} [الإسراء: 16] والعذاب الذي يعذب الله به الأمم ويهلك القرون ويديل الدول قسمان أيضا: الجوائح والاستئصال، وفقد الاستقلال، وقد بينا هذا وذاك في مواضع من هذا التفسير.

وفي هذه الآية رد على كفار مكة وهدم لغرورهم بقوتهم وثروتهم بإزاء ضعف عصبية النبي صلى الله عليه وسلم وفقره، وقد حكى الله تعالى عنهم ذلك بقوله: {وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين} [سبأ: 35].

أما القوم أو القرن الآخرون الذين يخلفون من نزل بهم عذاب الله تعالى فهم لا بد أن يكونوا مخالفين لهم في صفاتهم، وإن كانوا من جبلتهم وأبناء جيلهم.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

أمرهم أن يعتبروا بالأمم السالفة فقال: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ}...فهذه سنة الله ودأبه، في الأمم السابقين واللاحقين، فاعتبروا بمن قص الله عليكم نبأهم.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وفي موقف التهديد يلفت أعناقهم وأنظارهم وقلوبهم وأعصابهم إلى مصارع المكذبين من قبلهم -وقد كانوا يعرفون بعضها في دور عاد بالأحقاف وثمود بالحجر، وكانت أطلالهم باقية يمر عليها العرب في رحلة الشتاء للجنوب وفي رحلة الصيف للشمال، كما كانوا يمرون بقرى لوط المخسوفة ويعرفون ما يتناقله المحيطون بها من أحاديث- فالسياق يلفتهم إلى هذه المصارع وبعضها منهم قريب.

(ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم، وأرسلنا السماء عليهم مدرارا، وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم. فأهلكناهم بذنوبهم، وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين). ألم يروا إلى مصارع الأجيال الغابرة. وقد مكنهم الله في الأرض، وأعطاهم من أسباب القوة والسلطان ما لم يعط مثله للمخاطبين من قريش في الجزيرة؛ وأرسل المطر عليهم متتابعا ينشئ في حياتهم الخصب والنماء ويفيض عليهم من الأرزاق.. ثم ماذا؟ ثم عصوا ربهم، فأخذهم الله بذنوبهم، وأنشأ من بعدهم جيلا آخر، ورث الأرض من بعدهم؛ ومضوا هم لا تحفل بهم الأرض! فقد ورثها قوم آخرون! فما أهون المكذبين المعرضين أصحاب القوة والتمكين من البشر َ! ما أهونهم على الله؛ وما أهونهم على هذه الأرض أيضا! لقد أهلكوا وغبروا فما أحست هذه الأرض بالخلاء والخواء؛ إنما عمرها جيل آخر؛ ومضت الأرض في دورتها كأن لم يكن هنا سكان؛ ومضت الحياة في حركتها كأن لم يكن هنا أحياء...إنها حقيقة ينساها البشر -إلا من عصم الله- وعندئذ ينحرفون عن عهد الله وعن شرط الاستخلاف؛ ويمضون على غير سنة الله؛ ولا يتبين لهم في أول الطريق عواقب هذا الانحراف، ويقع الفساد رويدا رويدا وهم ينزلقون ولا يشعرون.. حتى يستوفي الكتاب أجله؛ ويحق وعد الله.. ثم تختلف أشكال النهاية: مرة يأخذهم الله بعذاب الاستئصال -بعذاب من فوقهم أو من تحت أرجلهم كما وقع لكثير من الأقوام- ومرة يأخذهم بالسنين ونقص الأنفس والثمرات كما حدث كذلك لأقوام -ومرة يأخذهم بأن يذيق بعضهم بأس بعض؛ فيعذب بعضهم بعضا، ويدمر بعضهم بعضا، ويؤذي بعضهم بعضا، ولا يعود بعضهم يأمن بعضا؛ فتضعف شوكتهم في النهاية؛ ويسلط الله عليهم عبادا له- طائعين أو عصاة -يخضدون شوكتهم، ويقتلعونهم مما مكنوا فيه؛ ثم يستخلف الله العباد الجدد ليبتليهم بما مكنهم.. وهكذا تمضي دورة السنة.. السعيد من وعى أنها السنة، ومن وعى أنه الابتلاء؛ فعمل بعهد الله فيما استخلف فيه. والشقي من غفل عن هذه الحقيقة، وظن أنه أوتيها بعلمه، أو أوتيها بحيلته، أو أوتيها جزافا بلا تدبير! وإنه لما يخدع الناس أن يروا الفاجر الطاغي، أو المستهتر الفاسد، أو الملحد الكافر، ممكنا له في الأرض، غير مأخوذ من الله.. إن هذا النص في القرآن: (فأهلكناهم بذنوبهم).. وما يماثله، وهو يتكرر كثيرا في القرآن الكريم.. إنما يقرر حقيقة، ويقرر سنة، ويقرر طرفا من التفسير الإسلامي لأحداث التاريخ.. إنه يقرر حقيقة أن الذنوب تهلك أصحابها، وأن الله هو الذي يهلك المذنبين بذنوبهم؛ وأن هذه سنة ماضية- ولو لم يرها فرد في عمره القصير، أو جيل في أجله المحدود -ولكنها سنة تصير إليها الأمم حين تفشو فيها الذنوب؛ وحين تقوم حياتها على الذنوب.. كذلك هي جانب من التفسير الإسلامي للتاريخ: فإن هلاك الأجيال واستخلاف الأجيال؛ من عوامله، فعل الذنوب في جسم الأمم؛ وتأثيرها في إنشاء حالة تنتهي إلى الدمار؛ إما بقارعة من الله عاجلة- كما كان يحدث في التاريخ القديم -وإما بالانحلال البطيء الفطري الطبيعي، الذي يسري في كيان الأمم- مع الزمن -وهي توغل في متاهة الذنوب!

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

هذا ما شاهدته قريش في رحلات الشتاء والصيف. رأوا آثار عاد قوم هود وبقايا ثمود قوم صالح. وكانت إمكانات عاد وثمود أكبر من إمكانات قريش. إن قريشا لا سيادة لها إلا بسبب وجود الكعبة، ولو كان الحق ترك أبرهة يهدم الكعبة لما مكن لهم في الأرض. هاهي ذي حضارات قد سبقت وأبادها الحق سبحانه وتعالى، ويوضح القرآن ذلك:

{ألم تر كيف فعل ربك بعاد (6) إرم ذات العماد (7) التي لم يخلق مثلها في البلاد (8) وثمود الذين جابوا الصخر بالواد (9) وفرعون ذي الأوتاد (10) الذين طغوا في البلاد (11) فأكثر فيها الفساد (12) فصب عليهم ربك سوط عذاب (13)} (سورة الفجر).

إنها حضارات كبيرة لها صيت وخبر في آذن الدنيا مثل حضارة الفراعنة. وكل ذلك الصولجان لا يحميه أحد من أمر الله. وزالت الحضارات وأصبحت أثرا بعد عين، وصدق عليها قول الحق:

{فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (40)} (سورة العنكبوت).

والحق يجازي كل كافر الجزاء الوافي، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخبر قومه بما حدث لغيرهم من أقوام آخرين {أو لم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن} والقرن عادة هو الجيل الذي يحكمه زمن محدود أو حال محدود، فإن نظرنا إلى الزمن فالقرن مائة سنة كأقصى ما يمكن، والجيل الذي يعيش هذا القدر يرى حفيده وقد صار رجلا. نعلم أن نوحا عليه السلام عاش تسعمائة وخمسين سنة، ويقول سبحانه:

{ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما} (من الآية 14 سورة العنكبوت).

وحياة نوح على طولها تسمى قرنا. إذن فالقرن هو الجيل يجمعه ضابط إما زمني وإما معنوي، والقرن الزمني مدته مائة سنة، أما القرن المعنوي فقد يكون عمر رسالة أو ملك.

ويخبر أهل الكفر بأنه قد قدر على غيرهم وأبادهم بعد أن مكن لهم في الأرض وذلك بألوان مختلفة من أنواع التمكين: {وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين}

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

وهناك عدة إشارات في هذه الآيات:

إن قانون السببية شامل للمواقف الإنسانية كما هو واقع في الظواهر الكونية، فقد جعل الله الواقع الإنساني خاضعاً للمواقف التي يتخذها الإنسان من خير أو شر، وهذا ما يجعل النتائج الإيجابية أو السلبية في حياته تابعةً لذلك. وهو ما يوحي إلينا بأن الله أوكل للإنسان أمر صياغة دنياه كما أوكل إليه صياغة مستقبله في آخرته، وذلك بقدر ما يتصل الأمر بإرادته واختياره، وهذا ما يصح لنا معه أن نقول: إن الإنسان يصنع قضاءه وقدره في الأمور المرتبطة بحركته الإرادية القادر من خلالها على تحريك الواقع، وليس القضاء والقدر شيئاً فوق إرادة الإنسان دائماً، بل هو كذلك في الأمور الكونية التي يتحرك بها النظام الكوني، أو في الأمور الحادثة التي يتعرض لها من دون اختياره. وهذا ما توحي به الآية الكريمة: {فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئونَ} فهي أنباء السوء الناتجة عن أعمالهم الشريرة ومواقفهم من الحق الذي جاءهم، فاستهزأوا به وأنكروه، فخسروا إيجابيات الحق في الدنيا، وسيواجهون عقاب الله في الآخرة. إنها الأنباء التي يتمخّض عنها الموقف السلبي، وهي ليست أنباءً سعيدة على كل حال. وهذا هو منطق السنن الاجتماعية التاريخية في تقدير الله للكون والإنسان، وهو الذي تتحرك فيه التجارب الإنسانية في الماضي والحاضر والمستقبل، لأن ذلك لا يخضع لحدّ زمني معين، بل هو خاضع للزمن كله ولحركة الحياة في عناصرها الحقيقية. الإنسان وحركة القوة في كيانه. 2 -إن حركة القوة في كيان الإنسان لا تمثل الضمانة له في الحصول على الفرص السعيدة في القضايا التي يخوض تجربته فيها ويحصل على نتائجها، بل إنها قد تدمّره إذا تحوّلت إلى حالة من الفوضى في الطغيان، أو اهتزاز في التوازن، أو امتدادٍ في الغرور الذي يوحي بانتفاخ الشخصية في نظرة الإنسان المَرَضية لنفسه وتعامله مع غيره؛ فإن مثل هذه الآثار السيئة في صورة الانحراف بما تمثله كلمة الذنوب في الأفكار والأعمال في الواقع الفكري والعملي، لا بد من أن تنتهي إلى نهايات سلبية، لأن القوة سوف ترتد عليه لتقتله عندما تصبح طاقةً مجنونة تتحرك بطريقةٍ جنونية لتطبق عليه، تماماً كمن يحمل الحجر ليكسر رأسه بدلاً من أن يكسر به رأس عدوّه. وهذا هو الذي عبرت عنه الآية الكريمة في قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم مَّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} وليس من الضروري أن يكون الإهلاك بالذنوب بمعنى العقاب الإلهي الذي ينزله الله عليهم بسبب ذنوبهم، بل قد يكون بمعنى الآثار السيئة التي هي النتائج المتلازمة مع الأعمال على هدى قوله تعالى في آية أخرى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] ليذوق الإنسان وبال أمره. وعلى ضوء هذا، لا بد للإنسان فرداً أو مجتمعاً من أن يدرس بموضوعية اتجاهاته الفكرية والعملية المنحرفة بشكل خاص في خصائصها وفي نتائجها الإيجابية والسلبية، ليعرف كيف يحرك قوته بوعي ويحصل على نتائجها بمسؤولية واتزان، ويدرس التاريخ دراسة الباحث في حركة التجربة ونتائجها. الإنسان واحترام العقل. 3- إن الله أراد للإنسان أن يفكر في كل ما تعرضه عليه الرسالات ويقدمه إليه الرسل من آيات الله ودلائل قدرته ومواقع عظمته ونعمته، مما يمثل الحجة عليه في خط الشريعة، لأن الله يتعامل مع الإنسان من خلال عقله الذي أعدّه ليرشده إلى الحق، وليقوده إلى المعرفة الواعية المنفتحة على حقائق الحياة في دلالاتها ونتائجها، وهذا هو المنهج القرآني الذي أراده الله للإنسان عقلاً وإرادة وحركة مسؤولية في الحاضر والمستقبل. إن الله يحترم في الإنسان عقله ويريد أن يأخذ بنتائجه القطعية الحاسمة من خلال التأمل والتفكير، فإذا لم يحترم الإنسان هذه الطاقة الإلهية المقدسة في وجوده، فعليه أن يواجه المسؤولية بكل سلبياتها على صعيد الدنيا والآخرة...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

يتكرر في القرآن القول بأنّ الإِمكانات المادية الكثيرة تبعث على الغرور والغفلة لدى ضعفاء النفس من الناس كقوله تعالى: (إِنّ الإِنسان ليطغى أن رآه استغنى) لأنّهم بتوفر تلك الإِمكانات عندهم يرون أنفسهم في غنى عن الله، غافلين عن العناية الإِلهية والإِمدادات الربانية المغدقة عليهم في كل لحظة وثانية، ولولاها لما استمروا على قيد الحياة... ليس هذا التحذير مختصاً بعبدة الأصنام، فالقرآن يخاطب أيضاً اليوم العالم الصناعي الثري الذي أثملته الإِمكانات المادية وملأته بالغرور، ويحذره من نسيان الأقوام السابقة وممّا حاق بهم نتيجة ما ارتكبوه من ذنوب، وكأني بالقرآن يقول للمغرورين في عالمنا اليوم: إِنّكم ستفقدون كل شيء بانطلاق شرارة حرب عالمية أُخرى، لتعودوا إِلى عصر ما قبل التمدن الصناعي اعلموا أنّ سبب تعاسة أُولئك لم يكن شيئاً سوى إِثمهم وظلمهم واضطهادهم الناس وعدم إيمانهم وهذه عوامل ظاهرة في مجتمعكم أيضاً...