غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{أَلَمۡ يَرَوۡاْ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّن قَرۡنٖ مَّكَّنَّـٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَا لَمۡ نُمَكِّن لَّكُمۡ وَأَرۡسَلۡنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡهِم مِّدۡرَارٗا وَجَعَلۡنَا ٱلۡأَنۡهَٰرَ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمۡ فَأَهۡلَكۡنَٰهُم بِذُنُوبِهِمۡ وَأَنشَأۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِمۡ قَرۡنًا ءَاخَرِينَ} (6)

1

ثم لما زجرهم عن الإعراض والتكذيب والاستهزاء وأوعدهم على ذلك عاد إلى الموعظة والنصيحة بتذكير أحوال الأمم الماضية والقرون الخالية . والقرن القوم المقترنون في زمان من الدهر المفترقون بعد ذلك بالموت وذلك الزمان في الأغلب ستون سنة . وقيل : سبعون . وقيل : ثمانون . والأقرب أنه غير مقدر بزمان لا يقع فيه زيادة ولا نقصان ، ولكنه إذا انقضى الأكثر من أهل كل عصر فقد انقضى القرن . وليس المراد أن يصدّق الكفار محمداً في هذه الأخبار لأنهم بصدد التكذيب فسيكذبونه فيها أيضاً ، وإنما المراد أن ما يختص بالمتقدمين منهم مشهور بين الناس فيبعد أن يقال إنهم ما سمعوا تلك الحكايات ومجرّد سماعها يكفي في الاعتبار . ثم وصف تلك القرون بثلاثة أوصاف : الأول : تمكينهم في الأرض . مكن له في الأرض جعل له مكاناً ، ومكنه فيها أثبته ، وهما متقاربان ولهذا جمع بينهما في الآية . والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما آتينا عاداً وثمود وغيرهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال وأسباب الدنيا . الثاني : إرسال السماء عليهم مدراراً يعني الغيث أو السحاب أو الخضراء ، لأن المطر ينزل من ذلك الصوب والمدرار كثير الدرّدرّ اللين إذا أقبل على الحالب منه شيء كثير . ومدراراً نعت المطر ويقال أيضاً سحاب مدراراً إذا تتابع أمطاره . ومفعال من أبنية المبالغة يستوي فيه المذكر والمؤنث . الثالث { وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم } أي من تحت أمكنتهم والمراد أنهم أصحاب البساتين والقصور والمنتزهات . فإن قيل : الهلاك غير مختص بهم وإنما يجري ذلك على الأنبياء والمؤمنين أيضاً ، قلنا : لدفع هذا الإشكال كرر فقال { فأهلكناهم بذنوبهم } فإن الإهلاك بسبب المعاصي والآثام لا يكون إلا بالعذاب والإيلام . ثم نبه بقوله { وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين } على كمال عزته واستغنائه ونهاية قدرته واستعلائه كقوله { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد } [ فاطر : 16 ] فالبلاد بلاده والعباد عباده بيده التخريب والتعمير وإليه الإعدام والإيجاد . ثم إن الذين يتمردون عن قبول دعوة الأنبياء طوائف متعددة . منهم من بالغ في حب الدنيا وطلب لذاتها وشهواتها على وفق هواه ومناه لا على قانون الخير والعدل فمنعه ذلك عن التزام التكاليف وهو المذكور في الآية ، وفيه أن لذات الدنيا ذاهبة وعذاب الكفر باقٍ ، وليس من العقل تحمل العقاب الدائم لأجل اللذات الفانية .

/خ11