المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{أَلَمۡ يَرَوۡاْ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّن قَرۡنٖ مَّكَّنَّـٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَا لَمۡ نُمَكِّن لَّكُمۡ وَأَرۡسَلۡنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡهِم مِّدۡرَارٗا وَجَعَلۡنَا ٱلۡأَنۡهَٰرَ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمۡ فَأَهۡلَكۡنَٰهُم بِذُنُوبِهِمۡ وَأَنشَأۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِمۡ قَرۡنًا ءَاخَرِينَ} (6)

هذا حض على العبرة ، والرؤية هنا رؤية القلب ، و { كم } في موضع نصب ب { أهلكنا } ، والقرن :الأمة المقترنة في مدة من الزمان ، ومنه قوله عليه السلام : ( خير الناس قرني ) الحديث{[4823]} ، واختلف الناس في مدة القرن كم هي ؟ فالأكثر على أنها مائة سنة ، ويرجح ذلك الحديث الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد » قال ابن عمر : يريد أنها تخرم{[4824]} ذلك القرن ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن بشر{[4825]} : تعيش قرناً فعاش مائة سنة ، وقيل : القرن ثمانون سنة ، وقيل سبعون وقيل ستون ، وتمسك هؤلاء بالمعترك{[4826]} وحكى النقاش أربعين وذكر الزهراوي في ذلك أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وحكى النقاش أيضاً ثلاثين ، وحكى عشرين ، وحكى ثمانية عشر وهذا كله ضعيف ، وهذه طبقات وليست بقرون إنما القرن أن يكون وفاة الأشياخ ثم ولادة الأطفال ، ويظهر ذلك من قوله تعالى : { ثم أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين }{[4827]} ، وإلى مراعاة الطبقات وانقراض الناس بها أشار ابن الماجشون في الواضحة في تجويز شهادة السماع في تقادم خمسة عشر عاماً فصاعداً ، وقيل القرن الزمن نفسه ، وهو على حذف مضاف تقديره من أهل قرن ، والضمير في { مكناهم } عائد على القرن ، والمخاطبة في { لكم } هي للمؤمنين ولجميع المعاصرين لهم من سائر الناس ، فكأنه قال : ما لم نمكن يا أهل العصر لكم ، فهذا أبين ما فيه ، ويحتمل أن يقدر في الآية معنى القول لهؤلاء الكفرة ، كأنه قال يا محمد قل لهم : { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ، ما لم نمكن لكم } وإذا أخبرت أنك قلت لغائب أو قيل له أو أمرت أن يقال ذلك في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها فتجيء بلفظ المخاطبة ، ولك أن تأتي بالمعنى في الألفاظ بذكر غائب دون مخاطبة . و{ السماء } المطر ومنه قول الشاعر :

إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا{[4828]}

و { مدراراً } بناء تكثير كمذكار ومئناث ، ومعناه يدر عليهم بحسب المنفعة ، لأن الآية إنما سياقها تعديد النعم وإلا فظاهرها يحتمل النعمة ويحتمل الإهلاك ، وتحتمل الآية أن تراد السماء المعروفة على تقدير وأرسلنا مطر السماء لأن مدراراً لا يوصف به إلا المطر ، وقوله تعالى : { فأهلكناهم } معناه فعصوا وكفروا { فأهلكناهم } ، { وأنشأنا } اخترعنا وخلقنا ، وجمع { آخرين } حملاً على معنى القرن .


[4823]:-الحديث رواه الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي عن ابن مسعود، ونصه: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تستبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته) وفي بعض الروايات (خيركم).
[4824]:- بمعنى أنها تنهي ذلك القرن وتفنيه، والحديث في البخاري، وفي مسند الإمام أحمد.
[4825]:- هكذا في الأصول وضبطه محقق القرطبي (بُسر) بالباء المضمومة والسين، وعبد الله ابن بشر الحمصي ذكره البغوي في الصحابة، وعبد الله بن بسر النصري ذكره أبو زرعة الدمشقي في الصحابة، ولا نقطع بصحة الاسم خصوصا وأن المصادر ذكرت أيضا عبد الله بن بُسر المازني، ولم تحدد أي الثلاثة هو صاحب الحديث، وروى ابن الأثير الحديث في النهاية: "أنه مسح على رأس غلام". ولم يذكر اسمه.
[4826]:-إشارة إلى الحديث: "معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين"، قال في الجامع الصغير: رواه الحكيم عن أبي هريرة، ورمز له بالضعف.
[4827]:- الآية (31) من سورة (المؤمنون).
[4828]:-ينسب هذا البيت لمعوّد الحكماء- معاوية بن مالك- وسمي بذلك لقوله: أعوّد مثلها الحكماء بعدي إذا ما الحق في الحدثان نابا وقد روي البيت: "إذا سقط السماء" بدلا من "إذا نزل..."