قوله تعالى : { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور } . أي : من الكفر إلى الإيمان بالدعوة ، { وذكرهم بأيام الله } ، قال ابن عباس وأبي بن كعب ومجاهد وقتادة : بنعم الله . وقال مقاتل : بوقائع الله في الأمم السالفة . يقال : فلان عالم بأيام العرب ، أي : بوقائعهم ، وإنما أراد بما كان في أيام الله من النعمة والمحنة ، فاجتزأ بذكر الأيام عنها لأنها كانت معلومة عندهم . { إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور } ، الصبار : الكثير الصبر ، والشكور : الكثير الشكر ، وأراد : لكل مؤمن ، لأن الصبر والشكر من خصال المؤمنين .
وقوله : { ولقد أرسلنا موسى } الآية ، آيات الله هي العصا واليد وسائر التسع{[7004]} . وقوله : { أن أخرج } تقديره : بأن أخرج ، ويجوز أن تكون { أن } مفسرة لا موضع لها من الإعراب{[7005]} ، وأما { الظلمات } و { النور } فيحتمل أن يراد بها من الكفر إلى الإيمان . وهذا على ظاهر أمر بني إسرائيل في أنهم كانوا قبل بعث موسى أشياعاً متفرقين في الدين ، قوم مع القبط في عبادة فرعون ، وكلهم على غير شيء ، وهذا مذهب الطبري - وحكاه عن ابن عباس - وإن صح أنهم كانوا على دين إبراهيم وإسرائيل ونحو هذا ف { الظلمات } الذل والعبودية ،
و { النور } العزة والدين والظهور بأمر الله تعالى .
قال القاضي أبو محمد : وظاهر هذه الآية وأكثر الآيات في رسالة موسى عليه السلام أنها إنما كانت إلى بني إسرائيل خاصة ، في معنى الشرع لهم وأمرهم ونهيهم بفروع الديانة ، وإلى فرعون وأشراف قومه في أن ينظروا ويعتبروا في آيات موسى فيقروا بالله ويؤمنوا به تعالى وبموسى ومعجزته ويتحققوا نبوته ويرسلوا معه بني إسرائيل .
قال القاضي أبو محمد : ولا يترتب هذا إلا بإيمان به ، وأما أن تكون رسالته إليهم لمعنى اتباعه والدخول في شرعه فليس هذا بظاهر القصة ولا كشف الغيب ذلك ، ألا ترى أن موسى خرج عنهم ببني إسرائيل ؟ فلو لم يتبع لمضى بأمته ، وألا ترة أنه لم يدع القبط بجملتهم وإنما كان يحاور أولي الأمر ؟ وأيضاً فليس دعاؤه لهم على حد دعاء نوح وهود وصالح أممهم في معنى كفرهم ومعاصيهم ، بل في الاهتداء والتزكي وإرسال بني إسرائيل .
ومما يؤيد هذا أنه لو كانت دعوته لفرعون والقبط على حدود دعوته لبني إسرائيل فلم كان يطلب بأمر الله أن يرسل معه بني إسرائيل ؟ بل كان يطلب أن يؤمن الجميع ويتشرعوا بشرعه ويستقر الأمر . وأيضاً فلو كان مبعوثاً إلى القبط لرده الله إليهم حين غرق فرعون وجنوده ، ولكن لم يكونوا أمة له فلم يرد إليهم .
قال القاضي أبو محمد : واحتج من ذهب إلى أن موسى بعث إلى جميعهم بقوله تعالى في غير آية { إلى فرعون وملئه }{[7006]} [ الأعراف : 103 ] ، و { إلى فرعون وقومه }{[7007]} [ النمل : 12 ] والله أعلم .
وقوله : { وذكرهم } الآية . أمر الله عز وجل موسى أن يعظ قومه بالتهديد بنقم الله التي أحلها بالأمم الكافرة قبلهم وبالتعديد لنعمه عليهم في المواطن المتقدمة ، وعلى غيرهم من أهل طاعته ليكون جريهم على منهاج الذين أنعم عليهم وهربهم من طريق الذين حلت بهم النقمات ، وعبر عن النعم والنقم ب «الأيام » إذ هي في أيام{[7008]} ، وفي هذه العبارة تعظيم هذه الكوائن المذكور بها ، ومن هذا المعنى قولهم : يوم عصيب ، ويوم عبوس ، ويوم بسام ، وإنما الحقيقة وصف ما وقع فيه من شدة أو سرور ، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : { أيام الله } : نعمه : وعن فرقة أنها قالت : { أيام الله } : نقمه .
قال القاضي أبو محمد : ولفظة «الأيام » تعم المعنيين ، لأن التذكير يقع بالوجهين جميعاً .
وقوله : { لكل صبار شكور } إنما أراد لكل مؤمن ناظر لنفسه ، فأخذ من صفات المؤمن صفتين تجمع أكثر الخصال وتعم أجمل الأفعال{[7009]} .
لما كانت الآيات السابقة مسوقة للرد على من أنكروا أن القرآن منزل من الله أعقب الرد بالتمثيل بالنظير وهو إرسال موسى عليه السلام إلى قومه بمثل ما أرسل به محمد صلى الله عليه وسلم وبمثل الغاية التي أرسل لها محمد صلى الله عليه وسلم ليخرج قومه من الظلمات إلى النور .
وتأكيد الإخبار عن إرسال موسى عليه السلام بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المنكرين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم منزلة من ينكر رسالة موسى عليه السلام لأن حالهم في التكذيب برسالة محمد صلى الله عليه وسلم يقتضي ذلك التنزيل ، لأن ما جاز على المِثل يجوز على المماثل ، على أن منهم من قال : { ما أنزلَ الله على بشر من شيء .
والباء في { بآياتنا } للمصاحبة ، أي إرسالاً مصاحباً للآيات الدالة على صدقه في رسالته ، كما أرسل محمد صلى الله عليه وسلم مصاحباً لآية القرآن الدال على أنه من عند الله ، فقد تمّ التنظير وانتهض الدليل على المنكرين .
و { أنْ } تفسيرية ، فسر الإرسال بجملة « أخْرِج قومك » الخ ، والإرسال فيه معنى القول فكان حقيقاً بموقع { أن } التفسيرية .
و { الظلمات } مستعار للشرك والمعاصي ، و { النور } مستعار للإيمان الحق والتقوى ، وذلك أن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد في مصر بعد وفاة يوسف عليه السلام سَرَى إليهم الشرك واتّبعوا دين القبط ، فكانت رسالة موسى عليه السلام لإصلاح اعتقادهم مع دعوة فرعون وقومه للإيمان بالله الواحد ، وكانت آيلة إلى إخراج بني إسرائيل من الشرك والفساد وإدخالهم في حظيرة الإيمان والصلاح .
والتذكير : إزالة نسيان شيء . ويستعمل في تعليم مجهول كانَ شأنُه أن يُعلم . ولما ضمن التذكير معنى الإنذار والوعظ عُدّي بالباء ، أي ذكرهم تذكير عظة بأيام الله .
و { أيام الله } أيام ظهور بطشه وغلبه من عصوا أمره ، وتأييده المؤمنين على عدوّهم ، فإن ذلك كله مظهر من مظاهر عزّة الله تعالى . وشاع إطلاق اسم اليوم مضافاً إلى اسم شخص أو قبيلة على يوم انتصر فيه مسمى المضاف إليه على عدوه ، يقال : أيام تميم ، أي أيام انتصارهم ، { فأيّام الله } أيام ظهور قدرته وإهلاكه الكافرين به ونصْره أولياءه والمطيعين له .
فالمراد بِ { أيام الله } هنا الأيام التي أنجى الله فيها بني إسرائيل من أعدائهم ونصرهم وسخر لهم أسباب الفوز والنصر وأغدق عليهم النعم في زمن موسى عليه السلام ، فإن ذلك كله مما أمر موسى عليه السلام بأن يذكرهمُوه ، وكله يصح أن يكون تفسيراً لمضمون الإرسال ، لأن إرسال موسى عليه السلام ممتدّ زمنه ، وكلما أوحى الله إليه بتذكيرٍ في مدة حياته فهو من مضمون الإرسال الذي جاء به فهو مشمول لتفسير الإرسال .
فقول موسى عليه السلام { يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم } [ سورة المائدة : 20 ، 21 ] هو من التذكير المفسّر به إرسال موسى عليه السلام . وهو وإن كان واقعاً بعد ابتداء رسالته بأربعين سنة فما هو إلا تذكير صادر في زمن رسالته ، وهو من التذكير بأيام نعم الله العظيمة التي أعطاهم ، وما كانوا يحصلونها لولا نصر الله إياهم ، وعنايتِه بهم ليعلموا أنه رُبّ ضعيففٍ غلب قوياً ونجا بضعفه ما لم ينجُ مثلَه القوي في قوته .
واسم الإشارة في قوله : { إن في ذلك لآيات } عائد إلى ما ذكر من الإخراج والتذكير ، فالإخراج من الظلمات بعد توغلهم فيها وانقضاء الأزمنة الطويلة عليها آية من آيات قدرة الله تعالى .
والتذكير بأيام الله يشتمل على آيات قدرة الله وعزته وتأييد مَن أطاعه ، وكل ذلك آيات كائنة في الإخراج والتذكير على اختلاف أحواله .
وقد أحاط بمعنى هذا الشمول حرف الظرفية من قوله : { في ذلك } لأن الظرفية تجمع أشياء مختلفة يحتويها الظرف ، ولذلك كان لحرف الظرفية هنا موقع بليغ .
ولكون الآيات مختلفة ، بعضها آيات موعظة وزجر وبعضها آيات منة وترغيب ، جُعلت متعلقة ب { كل صبار شكور } إذ الصبر مناسب للزجر لأن التخويف يبعث النفس على تحمل معاكسة هواها خيفة الوقوع في سوء العاقبة ، والإنعام يبعث النفس على الشكر ، فكان ذكر الصفتين توزيعاً لما أجمله ذكر أيام الله من أيام بؤس وأيام نعيم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا}، اليد والعصا... {أن أخرج قومك}، يعني أن ادع قومك بني إسرائيل، {من الظلمات إلى النور}، يعني من الشرك إلى الإيمان، {وذكرهم بأيام الله}، يقول: عظهم وخوفهم بمثل عذاب الأيام الخالية، فيحذروا فيؤمنوا، {إن في ذلك} يقول: إن في هلاك الأمم الخالية، {لآيات}، يعني لعبرة {لكل صبار شكور}، يعني المؤمن صبور على أمر الله عز وجل عند البلاء الشديد، شكور لله تعالى في نعمه...
{وذكرهم بأيام الله} قال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: يريد بلاءه الحسن وأياديه عندهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا موسى بأدلتنا وحججنا من قبلك يا محمد، كما أرسلناك إلى قومك بمثلها من الأدلة والحجج... عن مجاهد،:"أرْسَلْنا مُوسَى بآياتِنا" قال: التسع البينات...
وقوله: "أنْ أخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظّلُماتِ إلى النّورِ "كما أنزلنا إليك يا محمد هذا الكتاب، لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذْنِ رَبّهِمْ، ويعني بقوله: "أنْ أخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظّلُماتِ إلى النّورِ": أي ادعهم من الضلالة إلى الهُدى، ومن الكفر إلى الإيمان... وقوله: "وَذَكّرْهُمْ بأيّامِ اللّهِ" يقول عزّ وجلّ: وعظهم بما سلف من نعمي عليهم في الأيام التي خلت، فاجتزئ بذكر الأيام من ذكر النعم التي عناها، لأنها أيام كانت معلومة عندهم، أنعم الله عليهم فيها نعما جليلة، أنقذهم فيها من آل فرعون بعد ما كانوا فيما كانوا من العذاب المهين، وغرق عدوّهم فرعون وقومه، وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم. وكان بعض أهل العربية يقول: معناه: خوّفهم بما نزل بعاد وثمود وأشباههم من العذاب، وبالعفو عن الآخرين. قال: وهو في المعنى كقولك: خذهم بالشدّة واللين...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور"... أخبر أن في ذلك دلالات لكل من صبر على بلاء الله وشكره على نعمه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أَخْرجْ قومَك بدعوتك من ظلمات شكهم إلى نور اليقين، ومنْ إشكالِ الجهل إلى رَوْحِ العِلْم، وذَكِّرْهُم بأيام الله؛ ما سلف لهم من وقت الميثاق، وما رفع عنهم من البلاء في سابق أحوالهم. ويقال ذكِّرْهُم بأيام الله وهي ما سبق لأرواحهم من الصفوة وتعريف التوحيد قبل حلولها في الأشباح...
{إِنَّ في ذَلِكَ لآيات لِكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَنْ أَخْرِجْ} بمعنى أي أخرج؛ لأنّ الإرسال فيه معنى القول، كأنه قيل: أرسلناه وقلنا له أخرج...
{لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} يصبر على بلاء الله ويشكر نعماءه، فإذا سمع بما أنزل الله من البلاء على الأمم، أو أفاض عليهم من النعم، تنبه على ما يجب عليه من الصبر والشكر واعتبر وقيل: أراد لكل مؤمن، لأنّ الشكر والصبر من سجاياهم، تنبيهاً عليهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{لكل صبار شكور} إنما أراد لكل مؤمن ناظر لنفسه، فأخذ من صفات المؤمن صفتين تجمع أكثر الخصال وتعم أجمل الأفعال...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْوَعْظِ، الْمُرَقِّقِ لِلْقُلُوبِ، الْمُقَوِّي لِلْيَقِينِ...
اعلم أنه تعالى لما بين أنه إنما أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وذكر كمال إنعامه عليه وعلى قومه في ذلك الإرسال وفي تلك البعثة، أتبع ذلك بشرح بعثة سائر الأنبياء إلى أقوامهم وكيفية معاملة أقوامهم معهم تصبيرا للرسول عليه السلام على أذى قومه وإرشادا له إلى كيفية مكالمتهم ومعاملتهم فذكر تعالى على العادة المألوفة قصص بعض الأنبياء عليهم السلام فبدأ بذكر قصة موسى عليه السلام... {وذكرهم بأيام الله} فاعلم أنه تعالى... يعبر بالأيام عن الوقائع العظيمة التي وقعت فيها...
{إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} والمعنى أن... الحال إما أن يكون حال محنة وبلية أو حال منحة وعطية فإن كان الأول، كان المؤمن صبارا، وإن كان الثاني كان شكورا. وهذا تنبيه على أن المؤمن يجب أن لا يخلو زمانه عن أحد هذين الأمرين فإن جرى الوقت على ما يلائم طبعه ويوافق إرادته كان مشغولا بالشكر، وإن جرى بما لا يلائم طبعه كان مشغولا بالصبر...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر سبحانه الرسل بما ذكره، توقع السامع تفصيل شيء من أخبارهم، فابتدأ بذكر من كتابه أجل كتاب بعد القرآن هدى للناس دليلاً على أنه يفعل ما يشاء من الإضلال والهداية، وتسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتثبيتاً وتصبيراً على أذى قومه، وإرشاداً إلى ما فيه الصلاح في مكالمتهم، فقال مصدراً بحرف التوقع: {ولقد أرسلنا} أي بعظمتنا {موسى بآياتنا} أي البينات؛ ثم فسر الإرسال بقوله: {أن أخرج قومك} أي الذين فيهم قوة على مغالبة الأمور {من الظلمات} أي أنواع الجهل {إلى النور} بتلك الآيات {وذكرهم} أي تذكيراً عظيماً {بأيام الله} أي الذي له الجلال والإكرام من وقائعه في الأمم السالفة وغير ذلك من المنح لأوليائه والمحن لأعدائه كما أرسلناك لذلك {إن في ذلك} أي التذكير العظيم {لآيات} على وحدانية الله وعظمته {لكل صبار} أي بليغ الصبر على بلاء الله.. {شكور} أي عظيم الشكر لنعمائه، فإن أيامه عند أوليائه لا تخلو من نعمة أو نقمة، وفي صيغة المبالغة إشارة إلى أن عادته تعالى جرت بأنه إنما ينصر أولياءه بعد طول الامتحان بعظيم البلاء ليتبين الصادق من الكاذب...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
لما بيّن أن المقصود من بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور أراد أن يبين أن الغرض من إرسال الأنبياء لم يكن إلاّ ذلك، وخصّ موسى بالذكر لأن أمته أكثر الأمم المتقدّمة على هذه الأمة المحمدية...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وتقديم الصبر على الشكر لما أن الصبر مفتاح الفرج المقتضى للشكر...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يستدل بأيامه على كمال قدرته وعميم إحسانه، وتمام عدله وحكمته، ولهذا امتثل موسى عليه السلام أمر ربه، فذكرهم نعم الله فقال: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
... ففي هذه الأيام ما هو بؤسى فهو آية للصبر، وفيها ما هو نعمى فهو آية للشكر. والصبار الشكور هو الذي يدرك هذه الآيات، ويدرك ما وراءها، ويجد فيها عبرة له وعظة؛ كما يجد فيها تسرية وتذكيرا...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما كانت الآيات السابقة مسوقة للرد على من أنكروا أن القرآن منزل من الله أعقب الرد بالتمثيل بالنظير وهو إرسال موسى عليه السلام إلى قومه بمثل ما أرسل به محمد صلى الله عليه وسلم وبمثل الغاية التي أرسل لها محمد صلى الله عليه وسلم ليخرج قومه من الظلمات إلى النور. وتأكيد الإخبار عن إرسال موسى عليه السلام بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المنكرين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم منزلة من ينكر رسالة موسى عليه السلام لأن حالهم في التكذيب برسالة محمد صلى الله عليه وسلم يقتضي ذلك التنزيل، لأن ما جاز على المِثل يجوز على المماثل، على أن منهم من قال: {ما أنزلَ الله على بشر من شيء. والباء في {بآياتنا} للمصاحبة، أي إرسالاً مصاحباً للآيات الدالة على صدقه في رسالته، كما أرسل محمد صلى الله عليه وسلم مصاحباً لآية القرآن الدال على أنه من عند الله، فقد تمّ التنظير وانتهض الدليل على المنكرين...
والتذكير: إزالة نسيان شيء. ويستعمل في تعليم مجهول كانَ شأنُه أن يُعلم. ولما ضمن التذكير معنى الإنذار والوعظ عُدّي بالباء، أي ذكرهم تذكير عظة بأيام الله...
فالمراد بِ {أيام الله} هنا الأيام التي أنجى الله فيها بني إسرائيل من أعدائهم ونصرهم وسخر لهم أسباب الفوز والنصر وأغدق عليهم النعم في زمن موسى عليه السلام، فإن ذلك كله مما أمر موسى عليه السلام بأن يذكرهمُوه، وكله يصح أن يكون تفسيراً لمضمون الإرسال، لأن إرسال موسى عليه السلام ممتدّ زمنه، وكلما أوحى الله إليه بتذكيرٍ في مدة حياته فهو من مضمون الإرسال الذي جاء به فهو مشمول لتفسير الإرسال...
والتذكير بأيام الله يشتمل على آيات قدرة الله وعزته وتأييد مَن أطاعه، وكل ذلك آيات كائنة في الإخراج والتذكير على اختلاف أحواله...
ولكون الآيات مختلفة، بعضها آيات موعظة وزجر وبعضها آيات منة وترغيب، جُعلت متعلقة ب {كل صبار شكور} إذ الصبر مناسب للزجر لأن التخويف يبعث النفس على تحمل معاكسة هواها خيفة الوقوع في سوء العاقبة، والإنعام يبعث النفس على الشكر، فكان ذكر الصفتين توزيعاً لما أجمله ذكر أيام الله من أيام بؤس وأيام نعيم...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
المتبادر أن الآيات جاءت بمثابة تعقيب على موقف الكفار العرب والحملة عليهم مما هو متسق مع أسلوب سياق القصص القرآنية. فكفار العرب انحرفوا عن الطريق الحق فأرسل الله رسولا منهم يخاطبهم بلغتهم ليهديهم – على ما جرت عليه سنته – ومن ذلك رسالة موسى إلى قومه. ويلفت النظر على التشابه في الخطاب، حيث احتوى مطلع السورة أن الله أنزل الكتاب على النبي ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وأن هذا كان شأن موسى أيضا. ولقد كان العرب يعرفون رسالة موسى وقصصه في قومه وفي فرعون فجاء التذكير محكما ملزما. وقد تكون حكمة التنزيل استهدفت في حكاية الخطاب الذي وجهه موسى عليه السلام لقومه تنبيه السامعين من قوم النبي وجعلهم يأخذون منها عظة وعبرة، فإن شكروا زادهم الله نعمة، وإن كفروا فإن الله غني عنهم وعن غيرهم. وإن صح استلهامنا هذا ففيه ما يدعم ما قررناه قبل من انطواء الآية السابقة على تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتطمينه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لم تكن مسألة إخراج الناس من الظلمات إلى النور شأناً خاصاً بهذا القرآن أو بهذا الرسول، ولكنه هدف الرسالات كلها، والرسل كلهم، فهذا نبيّ الله موسى جاء إلى قومه ليخرجهم من الظلمات إلى النور استجابةً لنداء الله الذي كلّفه بحمل الرسالة إلى قومه ابتداءً، ثمّ إلى الناس جميعاً...
{وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} بما توحيه نسبة الأيام إلى الله من كونها أزمنة تتميّز بنعمه أو بلائه كمظهر من مظاهر قدرته وسطوته ورحمته وعذابه في تاريخ الأزمنة السابقة، وحركة المستقبل في الأزمنة اللاحقة. وهدف التذكير هنا، حثهم على التفكير بالارتباط بالله من أقرب طريق، بنشدان رضاه ورحمته، والخوف من سخطه وعقابه، والالتزام بالخط الذي يريدهم أن يسيروا عليه، وبذلك يكون هدف الذكرى إطلاق وعيٍ، بعلاقته بالله واتصال حياته به في جانب العافية والبلاء، ليخطط وينفذ من هذا الموقع...