التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مُوسَىٰ بِـَٔايَٰتِنَآ أَنۡ أَخۡرِجۡ قَوۡمَكَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَذَكِّرۡهُم بِأَيَّىٰمِ ٱللَّهِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ} (5)

ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ، أن رسالة موسى - عليه السلام - كانت أيضا لإِخراج قومه من الظلمات إلى النور ، ولتذكيرهم بنعم خالقهم عليهم ، وبغناه عنهم ، فقال تعالى :

{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ . . . . } .

قال الإِمام الرازى : " اعلم أنه - تعالى - لما بين أنه أرسل محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور وذكر كمال إنعامه عليه وعلى قومه فى ذلك الإِرسال وفى تلك البعثة ، أتبع ذلك بشرح بعثه سائر الأنبياء إلى أقوامهم ، وكيفية معاملة أقوامهم معهم . تصبيرا له - صلى الله عليه وسلم - على أذى قومه ، وبدأ - سبحانه - بقصة موسى فقال : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور . . . } .

وموسى - عليه السلام - هو ابن عمران ، ابن يصهر ، ابن ماهيث . . . وينتهى نسبه إلى لاوى بن يعقوب عليه السلام .

وكانت ولادة موسى - عليه السلام - فى حوالى القرن الرابع عشر قبل الميلاد .

والمراد بالآيات فى قوله : { بِآيَاتِنَآ } الآيات التسع التى أيده الله تعالى بها قال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ . . . } وهى : العصا ، واليد ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والجدب - أى فى بواديهم ، والنقص من الثمرات - أى فى مزارعهم .

قال - تعالى - { فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ . وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } وقال - تعالى - : { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات } وقال - تعالى - : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } ومنهم من يرى أنه يصح أن يراد بالآيات هنا آيات التوراة التى أعطاها الله - تعالى - لموسى - عليه السلام - .

قال الآلوسى ما ملخصه : " قوله : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ } أى : ملتبسا بها . وهى كما أخرج ابن جرير وغيره ، عن مجاهد وعطاء وعبيد بن عمير ، الآيات التسع التى أجراها الله على يده - عليه السلام - وقيل : يجوز أن يراد بها آيات التوراة " .

ويبدو لنا أنه لا مانع من حمل الآيات هنا على ما يشمل الآيات التسع ، وآيات التوراة ، فالكل كان لتأييد موسى - عليه السلام - فى دعوته .

و " أن " فى قوله { أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ } تفسير بمعنى أى : لأن فى الإِرسال معنى القول دون حروفه .

والمراد بقومه : من أرسل لهدايتهم وإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان ، وهم : بنو إسرائيل وفرعون وأتباعه .

وقيل : المراد بقومه : بنو إسرائيل خاصة ، ولا نرى وجها لهذا التخصيص ، لأن رسالة موسى - عليه السلام - كانت لهم ولفرعون وقومه .

والمعنى : وكما أرسلناك يا محمد لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ، أرسلنا من قبلك أخاك موسى إلى قومه لكى يخرجهم - أيضا - من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان . فالغاية التى من أجلها أرسلت - أيها الرسول الكريم - هى الغاية التى من أجلها أرسل كل نبى قبلك ، وهى دعوة الناس إلى إخلاص العبادة لله - تعالى - وخص - سبحانه - موسى بالذكر من بين سائر الرسل .

لأن أمته أكثر الأمم المتقدمة على هذه الأمة الإسلامية .

وأكد - سبحانه - الإخبار عن إرسال موسى بلام القسم وحرف التحقيق قد ، لتنزيل المنكرين لرسالة النبى - صلى الله عليه وسلم - منزلة من ينكر رسالة موسى - عليه السلام - وقوله - تعالى - : { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله } معطوف على قوله { أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ } .

والتذكير : إزالة نسيان الشئ ، وعدى بالباء لتضمينه معنى الإِنذار والوعظ : أى ذكرهم تذكير عظة بأيام الله .

ومن المفسرين من يرى أن المراد بأيام الله : نعمه وآلاؤه .

قال ابن كثير : قوله : { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله } أى : بأياديه ونعمه عليهم ، فى إخراجه إياهم من أسر فرعون وقهره وظمله وغشمه ، وإنجائه إياهم من عدوهم ، وفلقه لهم البحر ، وتظليله إياهم الغمام ، وإنزاله عليهم المن والسلوى .

ومنهم من يرى أن المراد بها ، نقمه وبأساؤه .

قال صاحب الكشاف : قوله : { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله } أى : وأنذرهم بوقائعه التى وقعت على الأمم قبلهم ، كما وقع على قوم نوح وعاد وثمود ، ومنه أيام العرب لحروبها وملاحمها ، كيوم ذى قار ، ويوم الفجار ، وهو الظاهر "

ومنهم من يرى أن المراد بها ما يشمل أيام النعمة ، وأيام النقمة .

قال الإِمام الرازى ما ملخصه : " أما قوله { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله } فاعلم أنه - تعالى - أمر موسى فى هذا المقام بشيئين ، أحدهما : أن يخرجهم من الظلمات إلى النور . والثانى : أن يذكرهم بأيام الله .

ويعبر عن الأيام بالوقائع العظيمة التى وقعت فيها . . { وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } فالمعنى : عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد ، فالترغيب والوعد ، أن يذكرهم بنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل . . . والترهيب والوعيد . أن يذكرهم بأس الله وعذابه وانتقامه ، ممن كذب الرسل من الأمم السالفة . .

ثم قال : " واعلم أن أيام الله فى حق موسى - عليه السلام - منها ما كان أيام المحنة والبلاء ، وهى الأيام التى كانت بنو إسرائيل فيها تحت قهر فرعون ، ومنها ما كان أيام الراحة والنعماء مثل إنزال المن والسلوى عليهم " .

وما ذهب إليه الإِمامان الرازى والآلوسى ، هو الذى تسكن إليه النفس ، لأن الأيام كلها وإن كانت لله ، إلا أن المراد بها هنا أيام معينة ، وهى التى برزت فيها السراء أو الضراء بروزا ظاهرا ، كانت له آثاره على الناس الذين عاشوا فى تلك الأيام .

وبنو إسرائيل - على سبيل المثال - مرت عليهم فى تاريخهم الطويل ، أيام غمروا فيها بالنعم ، وأيام أصيبوا فيها بالنقم .

فالمعنى : ذكر يا موسى قومك بنعم الله لمن آمن وشكر ، وبنقمه على من جحد وكفر ، لعل هذا التذكير يجعلهم يتوبون إلى رشدهم ، ويتبعونك فيما تدعوهم إليه .

واسم الإِشارة فى قوله : { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } يعود على التذكير بأيام الله .

والصبار : الكثير الصبر على البلاء . والصبر حبس النفس على ما يقتضيه الشرع فعلا أو تركا . يقال : صبره عن كذا يصبره إذا حبسه .

والشكور : الكثير الشكر لله - تعالى - على نعمه ، والشكر : عرفان الإِحسان ونشره والتحدث به ، وأصله من شكرت الناقة - كفرح - إذا امتلأ ضرعها باللبن ، ومنه أشكر الضرع إذا امتلأ باللبن .

أى : إن فى ذلك التذكير بنعم الله ونقمه ، لآيات واضحات ، ودلائل بينات على وحدانية الله - تعالى - وقدرته وعلمه ، وحكمته ، لكل إنسان كثير الصبر على البلاء ، وكثير الشكر على النعماء .

وتخصيص الآيات بالصبار والشكور لأنهما هما المنتفعان بها وبما تدل عليه من دلائل على وحدانية الله وقدرته ، لا لأنها خافية على غيرهما ، فإن الدلائل على ذلك واضحة لجميع الناس .

وجمع - سبحانه - بينهما ، للإِشارة إلى ان المؤمن الصادق لا يخلو حاله عن هذين الأمرين ففى الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن أمر المؤمن كله عجب ، لا يقضى الله له قضاء إلا كان خيرا له ، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له . وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له " .

وقدم - سبحانه - صفة الصبر على صفة الشكر ، لما أن الصبر مفتاح الفرج المقتضى للشكر ، أو لأن الصبر من قبيل الترك ، والتخلية مقدمة على التحلية .